Newsletterرسالة إخباريةEventsالأحداث
Loader

Find Us

FlipboardNabdLinkedinفايبر
Apple storeGoogle Play store
اعلان

"نكبتنا بالألوان والبث المباشر".. شهادات كُتاب ومثقفين عرب ليورونيوز عن حرب غزة

غزة
غزة Copyright يورونيوز
Copyright يورونيوز
بقلم:  Ahlem Tahar
شارك هذا المقالمحادثة
شارك هذا المقالClose Button

في هذا التحقيق الخاص نسأل كتاباً وشعراء ومثقفين عرب عن وطأة الحرب على غزة، عما غيرته في الحياة اليومية وآلية الكتابة.. نسعى لنقتسم التجربة مع آخرين، لنجد باباً إلى الفهم إذا تبادلنا عزلاتنا وصمتنا، لا كلماتنا وأفكارنا فحسب.

اعلان

المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر يورونيوز

ما الذي يمكن نسيانه؟ وما الذي يجب تذكّره؟ ما يمكن تداركه أو الثأر منه؟ غالباً ما يفكّر المرء في هذه الأسئلة إذا تجرأ على استعادة ماضيه، خصوصاً إن كان ماضياً يعيش ويستمر بقوة الصدمة، سواء كانت صدمة فرد أو جيل تشارك الزمان والمكان في لحظة شديدة العنف.

منذ بدء الحرب على غزة، لم يعد الزمن يمتد، بل يتقطّع، ونطلّ نحن عبر فجوات فيه، نحدق في ما يحدث "هناك" ونجرب الطرق المعتادة للهرب والنسيان.

سبق وأن شرّح كلاوفيتز في كتابه "عن الحرب" هذا الشعور قائلاً إن الجندي المتمرّس يتصرف في الحرب بطريقة مشابهة لعمل العين البشرية في الظلام، إذ تتسع حدقة العين لتسمح بدخول أي بصيص من النور، ثم تبدأ بتمييز الأشياء بالتدريج، حتى تراها بوضوح أخيراً، وعلى العكس من ذلك، حال غير المجرّب الذي سيسقط في الظلام الدامس. الوصفة واضحة "عدم المؤاخذة": طبيعة الحرب ذاتها لا تتضح إلا بالتجربة، ولعلنا توهمنا أننا خضنا هذه الحرب، في زمن البث المباشر والخبر العاجل والصورة الرقمية، لأننا رأينا على شاشاتنا، تهديد دبابة إسرائيلية هنا، أو قاذفة وحوّامة ومسيّرة هناك، لكن رغم هذا النهم إلى الصور، كأن مراكمتها رأس مال أو غاية بحدّ ذاتها، لا تكتمل القصص أو لا تقال كلها، إنما يمكننا أن نخمن مصائر وسير أولئك الذين ماتوا أو على وشك الموت.

يقول كلاوفيتز كذلك إن "في الحرب تحديات لا أهمية لها تُعرف بالقانون الدولي"، وهو ما يتكشف لنا اليوم عبر ميناء أمريكي قبالة غزة وخطّ بحري للمساعدات من قبرص، بعدما كان مؤمّلاً أن تطل الهدنة قبل أن يطل شهر رمضان.. في حين يتعاون الذكاء الاصطناعي في التعرف على وجوه الغزيين وأرشفتها، ويتطلع الأطفال إلى السماء علهم يرون المساعدات تهبط بالمظلات.

من بين الأشياء المضحكة، توجيهات الرعاية النفسية للصحفيين خلال فترات الأزمات والحروب، فآلية الحماية من الصدمات تنصحك بتبني سلوك صحي وإيجابي حين تتعرض لمحتوى مؤلم وخطر، عليك بالنوم والتعذية والتمارين الرياضية، ولا تنس أن تحافظ على علاقات اجتماعية إيجابية ولا تتابع الأخبار 24 ساعة في اليوم. أما عند اشتداد نوبات القلق فعليك أن تبحث عن 5 أشياء في محيطك يمكنك رؤيتها وتسمّيها بصوت عال، لإعادة توجيه التركيز.

حسنا أستطيع تسمية ورسم عشرة أشياء على الأقل: غزة، خانيونس، رفح، دير البلح، جباليا، النصيرات، المغازي، البريج، بيت لاهيا، وبيت حانون.. حتى قبل الحرب، تبدو تكتلات السكان في كل مدن القطاع، كمخيمات لاجئين كبيرة وعشوائية. غابة كثيفة من مكعبات الإسمنت متعدد الطبقات، متراصة ومتلاصقة بجانب بعضها البعض، بطريقة يصعب التفكير معها في إعادة التشكيل أو تطوير المشهد الحضري. غابة ذات حدود صغيرة، شكّلها عجز اللجوء، وعسف الواقع السياسي.

عادة ما يكون مركز المدينة قويا وواضحاً، يتخذ موضع القلب، تمتد منه مسارات كالشرايين قابلة للتفرع إلى ما لا نهاية، لكن النسيج العمراني المعقّد للقطاع عائد لكونه لا يتمتع بمدن مركزية سوى مدينة غزة التي تحتوي على الخدمات الرئيسية، كالمرافق الصحية والمؤسسات الحكومية والجامعات وأماكن العمل، ما يولّد حركة تنقل "بندولية" بين المحافظات من جنوب القطاع وشماله. بندول متوقف، وغزة الغارقة تحت آلاف الأطنان من الأنقاض هي اليوم "طروادة" التي اختصر فرجيل مصيرها بهاتين الكلمتين: "طروادة كانت".

ظننا أن أقدار كتّاب وشعراء العراق ستكون الأغرب، حين قضى رعد عبد القادر في بيته مفتوح النوافذ والأبواب، ونزف عقيل علي على أرصفة بغداد حتى الموت، وقصفت طائرة أمريكية بصاروخ منزل عائلة شاكر الأنباري وقتلت أمه وأباه وإخوته، وفقد خزعل الماجدي ابنه المخطوف، وسطا لصوص مجهولون على منزل محمود البريكان ـ كثير الأروقة ـ وقتلوه في غرفته بالسكاكين.. رثى مظفر النواب آدم حاتم المُوارى قبراً من دون شاهدة في صيدا اللبنانية، آدم البوهيمي المفلس الذي كان يستعير قلماً من أقرب شخص في مقهى أو حانة، قُتل إثر شجار مع سكّير مجهول مثله، وسُرقت حقيبته الصغيرة التي حشر فيها قصاصات قصائد قال في إحداها إن شموع كبده تكفي لإضاءة مدينة.

اللاّمعقول مستمر.. ومثلهم كُتاب غزة يجهّزون وصاياهم (كتاب الوصايا/ دار مرفأ بيروت) ويتوارون تباعاً، ولعل أكثرهم ضجراً يحيى عاشور الذي قال: "كل مرَّة أكتب عن الحرب/ أكتب الكلام ذاته/ مع قليل من التدوير والتبديل".. هؤلاء ليسوا طرواديين ومدينتهم لم تكن محصنة.

سنان أنطون (روائي ومترجم وأكاديمي عراقي)

سنان أنطون - روائي عراقي
سنان أنطون - روائي عراقي@sinanantoon

ليست مثل الحروب الأخرى، هذه الحرب... بالنسبة لي. وقد عشت حرباً وقصفاً من قبل. ونجوت. لكنها لم تكن بهذه الوحشية والكثافة وعلى مرأى من العالم. ولم توثق الوحشية من قبل بهذا الوضوح وبهذه الغزارة والكثافة، وعلى مدار الساعة. تحكم حواسنا ووعينا وتفكيرنا، في هذا العالم، وتتحكم بها كلها، شاشات صغيرة وكبيرة. وهي منذ أشهر نوافذ تطل على جبال الركام والدم والوجع. هناك من تطل نوافذهم على حيز آخر، لا يبدو وكأنه ينتمي إلى عالمنا نحن. وهناك من يغلقون النوافذ، ويسدلون الستائر، دون أن يشعروا بالذنب. التفرّس في الشاشات لا يوقف الحرب، ولا يغيّر من إيقاع الموت أو حدته. الصراخ المكتوم في البيت، والمعلوم في المظاهرات، لا يوقفان الحرب. ولا المقالات التي يكتبها المرء، ولا القصائد. يحاصرني ويحتلني شعور بالعجز واللاجدوى كل يوم. لكن صوتاً آخر يصيح بي وينهرني: هذا ترف! "قم فلك شيء في هذا العالم!"

ليست مثل الحروب الأخرى، هذه الحرب.. بالنسبة لي. لأنّها كشفت وعرّت الكثير وأسقطت الأقنعة عن الأقنعة من على وجوه كثيرة. في كل مكان. في محيطي اليومي في الجامعة: الزملاء الذين ينظّرون عن العدالة والاستعمار في مقالاتهم وكتبهم لكنهم رفضوا توقيع رسالة تطالب بوقف إطلاق النار وتدافع عن حق الطلاب في التظاهر من أجل فلسطين. والتزموا الصمت.

سومر شحادة (روائي سوري)

سومر شحادة - روائي سوري
سومر شحادة - روائي سوريfb. Somar Shehadeh

أنشغل بالكتابة عن فلسطين، منذ أشهر وأنا أكتب مقالاً أسبوعياً عن فلسطين، حيث أكتب في "العربي الجديد". أحياناً أقول لنفسي، صاروا كتاباً، ويجب أن تفكر بنشره جدياً. أتحدث عن هذا التفصيل، لأنَّ هذا ما أفعله؛ أفكر وأكتب، وأحاول أن أبقى منتجاً. في الحرب السورية أيضاً كنتُ أتأمل ما حولي وأكتب، هذه طريقتي في التأثَّر، وقد توقفت عن مشاهدة الإبادة منذ أشهر. مع وعيي أنني معتقلٌ، وما يقيدني هذه المرة هو ارتباطي بما يحدث في غزة. وأحياناً أرى أنه ذاته ما يحدث في سورية. إدراكي أننا أبناءٌ أوطانٍ عرضة للتهديد إلى هذا الحد المباشر والقاسي؛ يجعلني لا أطلُّ من حربٍ على حرب، بقدر ما أعي أنني أنتمي إلى نوعٍ مهدد، إلى وطن مهدد، إلى سورية طبيعية مهدَّدة. ماذا بوسع البشر المهددين أن يفعلوا؟ نحن ننتظر، نترقب وننتظر. وحياتي لا معنى لها، خارج الكلمات التي أكتبها.

عزت القمحاوي (روائي مصري)

عزت القمحاوي - روائي مصري
عزت القمحاوي - روائي مصريEzzat El-Kamhawi / Nasrmisr CC BY-SA 4.0

لم تُدخل غزة تغييراً على روتيني يمكن استيعابه والتعايش معه أو خلق روتين جديد أواصل فيه نشاطي الأدبي. انتهيت من كتابة أولى لرواية جديدة قبل أكتوبر الماضي، وكنت أنتظر أن أبدأ في مراجعاتها مع الشتاء لكنني لا أجد روحًا لأفعل ذلك. الأدب شديد الترفع لا يقبل شريكًا في وعي الكاتب.

وإن كان هناك من يتصور كاتبًا غزاويًّا يمكن أن يكتب أدبًا في مثل هذه الظروف، فبوسعي أن أكتب. على الأكثر أستطيع أن أقرأ وأن أبذل جهدًا للتركيز في كتابة المقالات التي أنشرها في منصة «المنصة» مرتين بالشهر، أو أفرغ قلقي في تغريدات على منصة X .

وضعتني حرب الإبادة الإسرائيلية على المسافة صفر من غزة. ولا أظن أن هذا سببه رباط دين أو قومية أو إحساس الجار بالجار فحسب بل رباط الإنسانية. هذا العدوان الذي يسحق حياة الأطفال في غزة ويقتل مدنييها دون تمييز ويدمر المرافق الحيوية عمدًا يطارد كل صاحب إحساس في العالم. يشعرنا بالإهانة لأننا عاجزون، وبالعار كلما جلسنا إلى وجبة طعام جيدة أو دخلنا في أسرتنا الدافئة. صرت أقضي وقتًا أطول على منصة X لأبحث عن صحبة. وأشعر ببعض الرضى لأن ناشطين أوروبيين وأمريكيين يفهمون ما يجري، ولديهم من نزاهة الضمير ما يجعلهم يستنكرونه. تمنعني كلماتهم من الكفر بالإنسانية.

أسباب الكفر بالإنسانية موجودة في كل الحروب. لكن القتل العبثي يستوطن المنطقة العربية منذ غزو العراق لنشر الديمقراطية فيه، مرورًا بتحويل الربيع العربي إلى جهنم، من بعد غزة، وفي سياق الدم تأتي أوكرانيا استثناء، دون أن تكون منفصلة عن خطة بلقنة الخريطة العربية.

وكصحافي ودارس للإعلام وآليات التضليل أرى في كل الحروب عناصر لتزييف الوعي بها، إلا قضية فلسطين البسيطة والواضحة وضوح الشمس. سكان يستحقون دولة على جزء من أرضهم التاريخية ومجتمع دولي يناصر دولة احتلال أقيمت بالأمس. الشيء الحسن الوحيد إن كانت للمآسي وجوه حسنة أن العالم يتغير ولن يظل محكومًا بجشع الرأسمالية وعقدة الهولوكوست التي تجعل الغرب يتغاضى عن إبادة شعب لم يذنب بحق اليهود.

اعلان

العزاء أن هذا يتغير الآن. وعي المواطن في الغرب يتغير، بفضل الثمن الباهظ الذي يدفعه سكان غزة. لكن ذلك لن يحدث اليوم أو غدًا. ومثل فراشة تقترب من النار صرت أشاهد التليفزيون بكثرة على غير عادتي. أحصي أعداد الضحايا، وأنتظر معجزة تضع نهاية لهذا الجحيم.

خليل صويلح (روائي وصحفي سوري)

خليل صويلح - صحفي وروائي سوري
خليل صويلح - صحفي وروائي سوريfb. Khalil Sweileh

أحتاج إلى نقاهة طويلة لمحو صورة العنف الإسرائيلي من ذاكرتي. تراكم الصور وضعني في مهبّ كوابيس يومية. فما حدث ويحدث إلى اليوم، هو دروس في البربرية، تتناوبني جرعة من الكرامة المستعادة من جهة، والخزي من صمت العالم على هذا القتل العلني من جهةٍ ثانية. نحن أزاء وليمة شكسبيرية من الجثث تحت بند "ذبح عشوائي"، كما لو أننا لم نغادر قاموس القرون الوسطى، حين كانت مفردة الذبح تتعلّق بذبح الحيوانات، وفي نُزهات الصيد تعني "رأس الفريسة"، قبل أن تُلصق هذه المفردة بالقتل البشري والرعب والتدمير في حروب دينية واستعمارية وعنصرية ضارية، حروب السيوف والسهام والبلطات، وصولاً إلى الصواريخ الزلزالية، باعتبار أن غزة مجرد حقل تجارب من الدرجة الأولى لفحص نجاعة الإبادة الجماعية بدقيقة واحدة! غزة لحن جنائزي طويل سيلحق العار بضمير العالم إلى الأبد.

أحمد عبد اللطيف (مترجم وروائي مصري)

أحمد عبد اللطيف - مترجم وروائي مصري
أحمد عبد اللطيف - مترجم وروائي مصريAhmed Abd Ellatif / CC BY 3.0 - wikimedia

"منذ 7 أكتوبر تحولت أحداث غزة إلى الحدث اليومي الرئيسي، لم يؤثر مرور الأيام على متابعتي للأخبار والانتقال من قناة إلى أخرى ومن خبر إلى خبر. لا أخفيك سرًا أني مكتئب، وأن هذه الأحداث بقسوتها أفقدتني حتى الرغبة في الكتابة، حتى بت أعمل الضروري واللازم فقط. مع كل مشهد لقصف بيت فلسطيني، مع كل أب يحمل جثة ابنه على ذراعيه، مع صور النساء المكافحات وهن جالسات في العراء يحاولن إعداد أي طعام ممكن لأبنائهن، ومع عربات المساعدات الواقفة على الحدود دون السماح بدخولها، يشعر الواحد بالأسى ويبكي، دموعًا حقيقية وليست مجازًا. ليس المؤسف أن إسرائيل تفعل، فهي بربرية همجية وعادة ما تفعل، ولكن المبكي صمت العالم ثنائي المعايير، العالم الذي انتفض مع حرب كرواتيا ولم يرمش له جفن مع قتل الفلسطينيين. المبكي هو عجزنا نحن، كمصريين، عن مد يد المساعدة لإخوتنا على الحدود. في البداية حاولنا، في الأيام الأولى من المجازر الإسرائيلية، اقترح الصديق والكاتب عزت القمحاوي أن نتحرك على السوشال ميديا، تويتر بالتحديد، بإنشاء هاشتاج بعنوان "روايتنا" نكتب فيه بلغات مختلفة، من إنجليزية وفرنسية وإسبانية وإيطالية، ونشارك صور المجزرة حتى لا تكون رواية إسرائبل هي الرواية الوحيدة، ونشارك كذلك تغريدات أصدقائنا الأجانب المتعاطفين مع القضية. ظلت الصفحة تعمل، ثم شعرت انا اننا في الحقيقة نكتب بلغة من يتواطؤون مع إسرائيل، وإن الموقف الغربي لا ينقصه المعرفة، وإنما الإنسانية. أنهم ليسوا عميانًا بالفطرة، وإنما يغمضون عيونهم عنا فحسب. بعد ذلك قررت أن أوقف المشاركة، وأن اتابع الأحداث بحزن العاجز.

لا أعرف متى ستنتهي هذه المجازر، لكن الأكيد أن 7 اكتوبر كان فارقًا في سير أحداثي اليومية، لا يمكن تجنب الحدث ولا عدم التأثر به، لا يمكن أن يمر اليوم كما كان يمر قبل 7 أكتوبر".

محمود الرحبي (روائي وقاص عماني)

محمود الرحبي - روائي عماني
محمود الرحبي - روائي عمانيMahmoud al-Rahbi

الجميع منشغل بغزة وخاصة في ما يتعلق بالجانب الإنساني، وهو الأكثر إيلاماً. هذا العدد الغفير المحاصر من البشر بلا توفير لأدنى شروط العيش الطبيعية، وفوق ذلك معرض لمفاجآت مفتوحة من العنف والقتل. لا أظن ضمير العالم سيتصالح بسهولة مع الكيان المحتل بعد ما رأينا وسمعنا من صرخات وآلام موثقة. من ناحيتي أقضي الكثير من الأوقات في تتبع نشرات الأخبار وقراءة المقالات التي في معظمها تدور حول الموضوع الفلسطيني في لحظته الراهنة، وكذلك حين أقلب الفيس بوك فإن الصدمات تتوالى وهي تعرب عن مشاهد مؤلمة خاصة في ما يتعلق بالأمومة والطفولة من تجويع وقتل وأمراض وتكدس مأساوي لم يشهد له التاريخ مثيلا بهذه الكثرة و التواتر والتصوير الحي المباشر. في العمل في المستشفى في الأسواق حتى وأنت تمشي غزة حاضرة. أتذكر منذ أيام كنت أتريض في الليل حين وجدت جارا لي، فاقترحت عليه أن نمشي معا، فإذا بموضوع غزة يقفز إلى مسرح الحديث. والغريب أنه قال لي -وهو شخص لاعلاقة له بالكتابة واهتماماته القرائية متوسطة- بأنه يتمنى أن يكتب مقالا بعنوان " العار العربي الكبير" على وزن العالم العربي الكبير، متذكرا الأبيات النوستلجية التي حفظناها في طفولتنا " بلاد العرب أوطان – من الشام لبغدان" كان أكثر ما آلمه أن العرب على ثرواتهم وخيراتهم يمكن أن يتحكم بهم بسهولة وزير الخارجية الأمريكي، كما أنهم عاجزون حتى عن تزويد إخوانهم في غزة بالطعام والدواء، وحالهم – في هذا السياق- أسوأ حتى من حال بعض الدول الغربية، بل والبعيدة كجنوب إفريقيا والبرازيل. أتذكر في التسعينيات محاضرة أقامها المفكر محمد عابد الجابري في مسقط، حين قال في مستهلها إنه جاء من الرباط في طائرة خطت به طوليا إلى مسقط وقد عبرت على بلدان جيمعها عربية، للأسف الجغرافيا واحدة ولكن القلوب شتى، وهذا ما لم ينتبه إليه العرب مما سهل أكلهم وتميزقهم كلا على حدة.

اعلان

أمل السعيدي (كاتبة وإعلامية من سلطنة عمان)

أمل السعيدي - كاتبة عمانية
أمل السعيدي - كاتبة عمانية@amlpen

تغيرت كثيراً منذ بداية الحرب، لم أعد أقرأ الكتب نفسها، وجدتُ نفسي أفكر في أسئلة حول ما بعد الاستعمار. تركتُ كل مشاريعي القرائية السابقة، أعدتُ قراءة فرانز فانون وكتابه المعذبون في الأرض، فكرتُ في مسألة الخلاص الفردي، لا أظن بأن هنالك خلاصاً إن لم يكن جماعياً، وعرفتُ أنني يجب أن ألتزم بمشروعي في الكتابة كأداة أريد استخدامها في مقاومة هذا العنف الهائل الذي يمسني شخصياً، وجدتني أشتبك مع أفكار حول العنف الثوري المنظم، أو تحرير العواصم العربية كجزء من المشروع التحرري الجذري لفلسطين وارتباطهما الوثيق. أو علاقة الرأسمالية بما يحدث، كيف يمكن التفكير في أن هذا العالم يخدم مجموعة صغيرة من الناس فحسب وهو مكرس لأجل رفاههم وثورتهم. أشعر بأنني مريضة جداً، واهنة، حتى أنني لا أعرف كيف يمكن أن تعود الحياة لموقع لا تخزني فيه على هذا النحو. فقدتُ تواصلي مع أصدقائي، ابتعدتُ عن الجميع بمن فيهم عائلتي، قصصتُ شعري، وفي كل لحظات التبطل التي كنتُ أحبها قبل الحرب، كنتُ أهرب نحو إيقاع نفسي في تجارب اجتماعية مميتة، كأن أتعرف على غرباء وأسمح لهم بانتهاك كل ما ظننتُ أنه راسخ في حياتي. أشعرُ بالتعب لكنني مضطرة مع ذلك للمضي قدماً في القراءة بجدية عن كل ما يحدث وما ينبغي أن يحدث قريباً.

أحمد فاروق (كاتب ومترجم مصري)

أحمد فاروق - كاتب ومترجم مصري
أحمد فاروق - كاتب ومترجم مصريAhmed Farouk

"منذ 21 عامًا وأنا أعمل في صحافة الأخبار، الأحداث السياسية المتعاقبة بدءًا بحرب العراق عام 2003 ووصولًا إلى حرب أوكرانيا- طبعًا مع استثناء ثورات الربيع العربي- لم تنعكس بتفاصيلها على حياتي اليومية، كانت أشبه بكتلة من الحروف المتناثرة تلقى يوميًا على رأسي وأخرج من مبنى المحطة التي أعمل بها كل يوم لأنفض هذا الثقل عني كما ينفض المرء الخبث عن الحديد، دوامات متتالية من الفشل والقمع والقهر اليومي حول العالم، لكن المرء يتعايش معها، حتى بشاعات داعش كانت كابوسًا مخيفًا، لكنه انقشع على نحوٍ ما. أما هذه الحرب في غزة، فليس لها مثيل، شلل تام يخيم على حياتي منذ بدايتها. تتعطل القدرة على التفكير، لا أستطيع الانغماس في الرواية التي أترجمها، لأنشغل عما يدور حولي. أقرأ بصعوبة وكأن الكتب خبز يابس يصعب بلعه. زميل لي فقد في هجوم صاروخي وحيد 27 من أفراد عائلته في حي النصيرات. صرت أخشى رؤيته لأن مسلسل الفقد لديه لا يتوقف. الجو العام في ألمانيا أيضاً ملبد بغيوم التحيز والعمى إزاء الظلم، إزاء الكارثة التي فشل العالم في وضع أي حد لها. المأساة تتفاقم والعالم يقف متفرجًا وأخشى أن تصبح حدثًا يوميًا نعتاده، فيزول شلل الدماغ ونعود لدواماتنا المعتادة."

علي المقري (روائي يمني):

علي المقري - روائي يمني
علي المقري - روائي يمنيAli al-Muqri / CC BY-SA 2.0

الحرب على غزة ليست كسابقاتها، فقد أخذتنا من يومياتنا المعتادة إلى قلبها، قلب الحرب، إلى تدمير ذلك العدد الهائل من البيوت فوق ساكنيها؛ إلى الأطفال القتلى الذين لم يستطيعوا أن يفهموا لماذا يقتلونهم، ومن أجل ماذا؟

أخذتنا الحرب من غفلتنا إذ كنا نتوقع أن العالم بخير ولم يعد في توحشه القديم، وأن هناك موازين عدل وأصوات تستطيع أن توقف سفك الدماء بحكم أو قرار. لم نكن نعرف أن العالم صار يحتفي بالفرجة على الصور إلى هذا الحد، أكثر من اهتمامه بالفعل نفسه، حتى وإن كانت الفرجة تصوّر لنا إنسانا يقتل بلا سبب، أو شخصا يتألم من الجوع حتى الموت، ولا أحد يستطيع أن يمنحه لقمة خبر أو شربة ما.

أخذتنا الحرب إلى عالم متوحش وموحش كنّا نظن أننا تجاوزناه منذ زمن. ولهذا مازال بعضنا مرتبكا لا يدرك أنه يعيش في عالم تسود فيه كلّ هذه القسوة.

اعلان

وليد الخشاب (روائي وأستاذ الدراسات العربية، جامعة يورك، كندا)

وليد الخشاب - روائي وأستاذ الدراسات العربية، جامعة يورك، كندا
وليد الخشاب - روائي وأستاذ الدراسات العربية، جامعة يورك، كنداfb. Walid El Khachab

غزة أصبحت خبزي اليومي. ابتعدت عن متابعة نشرات الأخبار على التلفزيون وعلى الإنترنت منذ سنين. لكني منذ أكتوبر 2023، أتابع الأخبار لعدة ساعات يومياً. العجز لا يترك مجالاً للكاتب أو الشاعر، ولا حتى يعفي الكلمات من وطأته. لكني منذ بداية الأحداث كتبت عدة قصائد غزل في فلسطين والفلسطينيات. من بعض سطورها:

كل حبيبة ليلى

وكل سرٍ على اسمك

كفٌ للحنين

ظاهره الهوى

اعلان

وباطنه

فلسطين

ربما كان الحب هو فعل الأمل الوحيد. ليس فعل التفاؤل -الذي لا محل له في ظل العنف المطلق- لكنه يمثل وحده مساحة التشوق إلى الحياة.

فلسطين ورمزيتها جزء من وجدان أي طفل عربي ولد في الستينات مثلي. وهي جزء من حياتي اليومية بمعنى أن العديد من زملاء دراستي في المدرسة وزميلاتي في الجامعة فلسطينيون. لكن غزة الآن حاضر فيما فوق الحاضر، أعيشها في عالم ما بعد الحقيقة وما بعد التاريخ وما بعد الإنسان وما بعد العنف: عالم العنف الخالص والصارخ والمتبجح والمبتغى لذاته. أعيشها كصور وأصوات على هاتفي، مقاطع متقطعة تليق بتمزق الأجساد وتمزيق فكرة البشرية. لذا أكتب أيضاً قصائد كابوسية عن نهاية العالم هذه الأيام.

حكومة يمين متطرف تواجهها مقاومة أغلبها من أقصى اليمين. عبث يليق بنهاية العالم في الأفق. أما في دقائق اليوم وتفاصيله، فتخيل عالما قادما أكثر رحابة هو رهان اليائس الأخير.

اعلان

فراس سليمان (شاعر سوري)

فراس سليمان - شاعر سوري
فراس سليمان - شاعر سوريfb. Firas Sulaiman

التعاطي مع كلمة "حرب" يعني مواجهة كل التداعيات والمعاني المرافقة للحروف الثلاثة هذه، وكل الصور التي اختزنتها الذاكرة من خراب ودمار وقتل ووحشية وظلم وووو. وكشخص حدث أن وُلد في منطقة، فترات السلم التي مرت بها كانت دائماً على شفا إنذار بانفجار ما. لا ضرورة هنا للتحدث عن أشكال وأنماط الحروب غير التقليدية التي تندلع بعنف ملغز ورمزي غير مصحوب بالدم.

أقصد كل هذه التهيئة لم تنقذني من أن أكون واحداً من الضحايا بطريقة أو أخرى. ومما يجعلني أشعر بالعجز، مع كثيرين غيري كما لي أن أفترض، هو موقعي الذي لم أختره ك"متفرج".

أكثر من عشر سنوات ونحن متورطون في المقتلة السورية إضافة إلى المآلات التي انتهت إليها البلدان التي مرّ بها ما سُمي (الربيع العربي) ناهيك عما حدث و يحدث في العالم من إبادات جماعية ومجاعات لم يعرها الفرد (العربي المتورط في أزماته) انتباهاً. ولم تعمل القوى العالمية الفاعلة على إيقافها.

والآن وأمام همجية العدوان الاسرائيلي ورؤية كل هذا الموت والتجويع والتهجير. هل كنت أحتاج لامتحان كهذا لأتأكد من قدرتي على التعاطف والوقوف أمام صورة كوكب، إلى هذا الحد، يفتقر إلى العدالة /أنا الذي لدي رهاب من الدم والعنف/ ببساطة هل يحق لي أن أستعرض ألماً شخصياً قبالة معاناة شعب يُقتّل بكل هذه البربرية.أخشى أن أبدو مدعياً، من هنا يتأتى خجلي في قول: إن علاقتي مع تفاصيل يومي تغيرت ومشاريعي الصغيرة وكمّ الحزن والغضب اللذين جعلا مزاجي مضطرباً، ونومي مليئاً بكوابيس لا ترحم. إنها مقارنة ،تبعث على الإحساس بالخزي، مع من.. مع آلاف فقدوا حياتهم وآلاف مازالوا عالقين بين فكي أرض تشتعل وسماء تمطر حممها الجهنمية.

نعم هناك فرق بين من يخرج من الغرفة إلى الشرفة باكياً وهو عارف أنه في مأمن من القصف وبين مشهد أناس ماضين تاركين بيوتهم المهدمة إلى مجهول أقسى من الموت.

اعلان

وجدي الكومي (روائي وقاص مصري)

وجدي الكومي - روائي وقاص مصري
وجدي الكومي - روائي وقاص مصريWajdy El-Koumy

الحرب تسببت في ازدياد وتيرة متابعتي للأخبار بطبيعة الحال، هذا ليس أمراً مستغرباً أو جديداً، لم أفعل شيئاً مفيداً بحياتي الشخصية سوى متابعتي ليلاً ونهاراً لقناة الجزيرة، في هذه المواقف يختار المرء ما يتابع من قنوات إخبارية، اختياري للجزيرة لأنها تقريبا القناة الوحيدة التي كان لديها مراسلون في قطاع غزة، بالتأكيد لم أكتب نصوصا أدبية عن قطاع غزة ولم أقرأ غسان كنفاني مرة ثالثة، لكنني اقتنيت من مصر كتاب إدوارد سعيد الاستشراق ولم أكن قد قرأته من قبل.

أعيش في سويسرا طالباً بقسم الثقافة والفن بكلية الفن بجامعة زيوريخ، انخرطت طبعا خلال هذه الفترة في إفهام من حولي بطبيعة الصراع وتاريخه، شاركت في مظاهرة ضخمة لدعم الحراك الفلسطيني في غزة، واستكشفت عن قرب الخوف الرهيب من تهمة معاداة السامية التي تطارد المشتغلين في الجامعة في سويسرا، كل هذا أثرّ عليّ بشكل كبير، فهمت أن لا حرية رأي تقريبا في أوروبا طالما الأمر يتعلق بإسرائيل، من حسن الحظ أنني أعيش في سويسرا وليس في ألمانيا، هناك الوضع أسوأ بمراحل.

بالتأكيد أثرت الحرب عليّ تأثيراً نفسي بشعاً لم أنج منه حتى الآن، قتل الفلسطينيين بهذه الصورة يوميا على الهواء، الصواريخ التي تهوى على رؤوس الأطفال، البنايات التي تقصف على قاطنيها النائمين، كل هذه الصور المفزعة جعلتني أفقد أعصابي أكثر من مرة بينما أكتب بوستات على صفحتي على الفايسبوك متسائلا كيف يمكن أن نرى إبادة شعب بكل أطيافه.. نساءه رجاله مسنيه أطفاله دون أن تتحرك شعوبنا العربية أو ترفع حكوماتنا أسلحتها التي تكدسها في مخازنها لاغتنام عمولات الصفقات!!! 

هنادي زرقة (شاعرة سورية)

هنادي زرقة - شاعرة سورية
هنادي زرقة - شاعرة سوريةTwitter @hanadizarka74

لا أنكر إنني لم أستوعب ما حصل في 7 أكتوبر، واختلطت مشاعر الفرح والخوف، الفرح لأنني، للحظة، اعتقدتُ أن ما من عدو لا يُقهر وما من ظلم يدوم. لكنني في اللحظة نفسها تخوفت مما سيحدث بعدها وتشاءمت، فنحن أمام آلة عسكرية غاشمة تساندها دول العالم أجمع، لا تملّ من ممارسة دور الضحية، مع إنها أصبحت أكثر الجلادين شراسة.

أرقتني صور القصف والقتل، ولم أستطع التوقف عن رؤية الأخبار والموت، وكان ذلك يخنقني، فأنا السورية الخارجة من حرب فظيعة، أرتعب من منظر الدم والأشلاء. لكن العنصرية ونبرة الاستعلاء التي كان يتكلم بها السياسيون الغربيون وهم يتحدثون عن الفلسطينيين جعلتني أتوقف عند شعارات حرية التعبير والمقاومة والديمقراطية وأدرك مدى زيفها عندما يتعلق الأمر بمصالحهم.

اعلان

كان الخروج في المظاهرات والصراخ هو أحد الأشياء التي تجعلني أشعر بالراحة قليلاً، فقد سيطر علي شعور بالعجز والإهانة والذل، لا سيما بعد صور التجويع التي كانت تصل من غزة.

لم أركن إلى تلك المشاعر طويلاً، بدأت أكتب المقالات، وحاولت كلما التقيت بأجانب، ألمان وغيرهم، أن أشرح لهم عدالة القضية الفلسطينية، وأزعم أن هذا ما يمكننا فعله في أوساطنا، وكثيراً من الأجانب الذين التقيتهم وتحاورت معهم غدوا يدافعون بالقدر نفسه من الحماسة عن فلسطين.

الآن، تتزايد أعداد المناصرين للقضية الفلسطينية، وبات واضحاً من المظاهرات والأفراد الفاعلين الداعمين لها، لكن الشعب الفلسطيني ما يزال يُقتل ويحاصر ومحروم من الغذاء والماء، وهذا سبب يجعلني أزداد اختناقاً وبأن كل ما نفعله عديم الجدوى إزاء مكنة الموت المستمرة.

حسن عبد الموجود (روائي مصري)

حسن عبد الموجود - روائي مصري
حسن عبد الموجود - روائي مصريḤasan ʿAbd al-Mawǧūd

لست من متصفحي مواقع السياسة، وإنما زائر دائم لمواقع الرياضة. لا اترك شاردة أو واردة إلا وأقرؤها. تمرينات النادي. استعدادات الفريق. التشكيل. إصابات اللاعبين. تعليمات المدرب. التراشق بين الأندية. حكام المباريات. تقييم محمد صلاح من المواقع الإنجليزية. صراع الهدافين. ترتيب الصدارة.. إلخ. شخص نمطي يفعل نفس الأشياء يومياً، يأكل نفس الأصناف، يتحدث مع نفس الأشخاص، يتصرف ويرد بنفس الطريقة، ولا يمكن أن يخرجني من دائرة العادة إلا حدث كبير، ولا يوجد أكبر من غزة وقضية فلسطين.

في الصباح تكون "غزة" أول كلمة أكتبها في مربع البحث، وربما أضيف إليها اسم موقع أثق فيه، أطالع ما فاتني أثناء نومي، وأبتلعه كحبة دواء مُرَّة تغير طعم فمي وتبقي مزاجي كئيباً.. أهرب من الفيسبوك تعليقات أصدقائي عن غزة تجلدني، لكنني رغماً عني، أعود إلى البحث عن غزة على جوجل، مطالعاً المستجدات، ومبتلعاً حبة الدواء المسائية.

اعلان

أقول لنفسي إن البحث عن غزة من مكانك الآمن هو أقل ما تقدمه لها، لقد صارت جزءا من نمط حياتي وعاداتي. لكنني حين أضبط نفسي متأخراً في معرفة أخبارها، ألومني، كما ألوم الناس الذين تتحول فلسطين وتضحيات الناس فيها وشهداؤها إلى خلفية صامتة تعرضها شاشات باردة وهم يتناولون عشاءهم أو يهاتفون أحباءهم.

صلاح بن عياد (مترجم وروائي تونسي)

صلاح بن عياد - مترجم وكاتب تونسي
صلاح بن عياد - مترجم وكاتب تونسيfb. Slah Ben Ayed

كثيرًا ما قرأنا يوميّاتٍ تصف أثار الحروب على من يعايشُها. ابتداءً من أنطوان بولاد ومحمد حسنين هيكل وجون بول سارتر وغيرهم. إلا أن يومياتهم تلك كانت تتحدث عن أثر مباشر لتلك الحروب. تحدثوا عن عبثيتها وضحاياها ومختلف مراحلها. عن بدايتها ونهايتها، إلخ.. لكن حروب اليوم تختلف عن حروب الأمس على ما يبدو. إذ لا يمكن لها أن تنحصر في رقعتها العسكرية ولا في حدود البلدان المتناحرة ولا حتى في حدود البلدان المجاورة لتلك الحروب. لحرب اليوم منطق آخر. إنّها تبلغُ الكونية مهما كان حجمها. صارت الحرب تنقل على المباشر في المحطات التلفزيونية وفي شاشات شاهدي العيان. لذلك، تصلنا تفاصيلها أولاً بأوّل.

كذلك كان شأن الحرب على غزة. ودون الغوص في بشاعة الصور التي تصلنا إلى حدود أسرّتنا، وفي الإبادة والمجزرة وغيرها من المصطلحات، لقد كانت هذه الحرب في رأينا أقسى ما عاش هذا العالم. كان الأمر أشبه بعاجزين يتفرجون على مظلمة. يهتزون في أماكنهم، وتسيل دموعهم، يصابون في مأكلهم وملبسهم ونومهم.. دون جدوى. قد يخرجون في مظاهراتٍ مندّدةً، يطلقون المصطلحات الدقيقة والشّعارات العنيفة.. دون جدوى. قد يكتبون مقالاتٍ ويُمضون في بيانات مندّدة. قد يتبرعون في حدود إمكانياتهم ولا إمكانياتهم. لكن الحرب تظل دائرة على الشاشة وفي غيرها من الوسائط. تصلك المواقف الأكثر قساوةً. تصلك كلماتٌ أطفال بلغوا الحكمة في أيّامٍ، عاشوا ما لم يعشه أيّ طفل آخر، تصلك مشاهد بطوليّة وأخرى ظالمة. الأسئلةُ تتوالد في داخلك: ما جدوى أن تكون إنسانًا؟ ما جدوى أن تنادي بتلك القيم الكونية وأن تورثها لأبنائك؟ العالم على وشك تغيير مبادئه والتفريط في كل منجزاته القيميّة الحضارية. العالم بصدد التنكر لمواثيقه الدولية واتفاقياته. العالم تنكّر لتاريخه الطويل ولتجاربه المريرة مع الصراع. إننا في مفترقٍ لا نعرف ماذا سيفرز. كيف ستكون المرحلة القادمة؟ هل سنعود إلى سالف سِيَرِنا؟ هل نجدّد الثقة في تلك الشعارات التي ناضل من أجلها الملايين؟

أسئلةٌ تظل معلّقة ونظل منشدّين لما ينهال علينا من تلك الحرب الجائرة.

علاء حليحل - كاتب فلسطيني
علاء حليحل - كاتب فلسطينيfb. Alaa Hlehel

علاء حليحل (كاتب مسرحي وروائي فلسطيني)

في أوّل أسبوعين على اندلاع الحرب على غزة كنتُ مشلولًا. لا عمل ولا كتابة ولا حياة. تبلُّد قاتل في الأحاسيس وجدوى الحياة. إهمال في كل التفاصيل اليوميّة التي نمارسها كي نشعر بأّننا بخير: أن نجلي الأطباق ونطبخ ونُهوّي الأغطية ونمشي إلى جانب البحر. فجأةً بدت هذه التفاصيل اليوميّة كماليّات لا طائل منها. كيف يمكن أن يطبخ المرء المجدرة التي يُحبّها محمود ابني والعدس البنيّ كفُتات الأبنية المتشظيّة؟

اعلان

لكنّني قمتُ في أحد الصّباحات مع قرار واضح: سأكتب وسأعمل ولن أسمح للحرب بأن تشلّني. وهكذا، عدتُ إلى إيقاع عمل وكتابة أكبر من السّابق: أنهيتُ ترجمة كتابٍ قبل الموعد بشهر؛ ووضعت أبواب ومحاور مجموعة قصصيّة جديدة وبدأت العمل عليها؛ وأنهيت كتابة كتاب للأطفال، وأنا أرسم الآن ملامح رواية قصيرة تراودني أخيلتها منذ سنوات. لم أفقد للحظة اهتمامي بغزة وحرب الإبادة التي تُشنّ عليها، أتابع الأخبار من دون أن أدمن عليها، ومن دون أن أسمح لأيّ آلة حربيّة بقتل رغبتي في الحياة والكتابة وتربية ابنتي وابني والعناية بهما.

عزة الطويل (روائية لبنانية)

عزة الطويل - روائية لبنانية
عزة الطويل - روائية لبنانيةAzza Tawil

هذا الصباح استيقظت على وجعٍ في جبهتي. كان آخر ما رأيته في الحلم طائراتٍ حربيةً تتكاثر في الخارج، نراها نحن المتجمّعين في ذاك المكان الكبير الذي أجهله لكنه أشبه بمشفى، عبر نوافذه الواسعة، وكل منا يختار مكاناً له ليختبئ من القصف العنيف.

في الحلم، أضعتُ طفليّ. كنتُ خائفةً حدّ تعطّل يدَي، وقدَمي، وجسمي كلّه. بقي عقلي متوقّداً، وعيناي، أبحث بهما عن طفليّ. أين هما؟ كانا معي قبل ثوان، وفي تلك اللحظة التي نظرت خلالها عبر النافذة لأقيس خطواتي القادمة وأدرس مكان الاختباء الأمثل، ضاعا مني. الكل مختبئٌ، وأمامي على الأرض حرامٌ كبيرٌ يبدو أن ثمة أشخاصاً تحته. من ذا الذي يختبئ من القصف تحت حرام؟ صوتي تعطّل أيضاً، أخاف أن أرفعه فهذه الطائرات ذكيةٌ جداً وقد تلتقط كل حركةٍ، وكل صوت. يتزايد القصف. أيّ أم أنا؟

هذا الصباح، استيقظت على وجعٍ في جبهتي. ففيما تعطّلت يداي في الحلم، غرزتُ أظافري في جلدي أثناء النوم. الحصار والشلل والموت المطبق، أنتجت كلّها حركة دموية وجّهتُها إلى جلدي.

هذا الصباح نزَفَت جبهتي قطراتٍ وأنا أفكّر في كل هؤلاء الأمهات العالقات في مشافي غزة، وآخرها في خان يونس، يفقدن أطفالهن أو يمتن معهم وسط تدفّق اللهب.

اعلان

كان خبر الغارات الإسرائيلية على جنوب غزة آخر خبرٍ قرأته قبل أن أنام لبضع ساعاتٍ غير مريحةٍ في سريري الكندي. 

خالد جبران (ملحن فلسطيني، عازف وباحث في الموسيقى وإيقاع الشعر)

خالد جبران (ملحن فلسطيني، عازف وباحث في الموسيقى وإيقاع الشعر)
خالد جبران (ملحن فلسطيني، عازف وباحث في الموسيقى وإيقاع الشعر)fb. Khaled Jubran

"اِسْقُوني، اِسْقُوني!"

كعويل ذئاب جائعة خدّشت صفارات الإنذار زجاجَ نافذتي ذاك الصباح.

أدرتُ ظهري نحو الشباك وأكملتُ نومي، حتى لو أتت القذيفة، وحتى لو دمّرَت العمارة الواقعة على رأس الشارع حيث مطعم البيتزا الذي أكره، ثم اخترقت جميع درابزينات الحدائق المجاورة، سيحميني شيء ما، لا شك، ربما الزجاج؟

لا أحب العويل، تمامًا كما لا أحب صوت الكمان. لا أطيق حشرجاتِه، أهرب من الرعب والرغبة بالبكاء اللذين يثيرهما في نفسي، هي ليست ترسبات، فطفولتي لم تكُن معذّبة بل مدثرة بصوتِ عود أبي، ولصوت العود بقي في نفسي أثر قطرات الفضة السائلة من طرف هلالٍ، كان يومها يقيمُ في سماء عكّا، قبالة نافذتنا.

اعلان

كعويل ذئاب جائعة عاودت الصفارات غزوَها ضحى ذاك اليوم.

يوم سقطَ الإنسانُ عاريًا من كل قيمة. أدرتُ صدري نحو الزجاج هذه المرة، فلتأتِ القذيفة. وماذا بمقدور غزة أن تطلق نحو القدس سوى رشقات من أنينها؟ نحن، الملحدين، قد نسخر لتسييس الإله، ولتجييش "روحِه القدُس"، لكن الحروب لا تبادلنا النكات ولا هي تتحايدنا، بل تقتلنا أيضًا كما لو كنّا من غلاة المؤمنين. حينها قمتُ من سريري.

رأيتُ الشعب الإسرائيلي وقد تحوّل عن بِكرةِ أبيه إلى جنديّ واحد أحد! جنديّ مدجّج بالنقمة التوراتية. رأيتُ مجتمعًا كاملًا متكاملًا بصحافييه، علمائه، شقراواتِه، شعرائه، عارِضي أزيائه وجنرالاته السابقين كاللاحقين، وكلّهم قد أصيبوا بنفس الظمأ إلى دمِ الأغيار. رأيتُ لغتي مصفّدة ومسحوبةً من ضفائرها إلى ساحة إعدام هُيِّئَت على عُجالة. رأيتُ اسميَ يجري هلِعًا وعلى جبينه صليبٌ من رماد فيستدلّ إليه القنّاص. مرّ بجانبي ولم يلقِ علي التحيّة، لكنني لم أعاتبه ولا أنا غضبت. فمن أدرى مني بالنقمة التوراتية؟ من أدرى بالظمأ إلى دمِ الحِثّيّ والجرجاشيّ والكنعانيّ والأموريّ؟! واسمي ليس كنعانيًّا تمامًا لكنه عربيّ، وهكذا انطلقَ يجري ويتعثّر ثم يقوم ويمضي لاهثًا كسائر الأسماء التي تشتهيها المقصلة.

شاشة البلازما الرقيقة أمسَت فوّهةً للجحيم. تزاحم فيها كلّ ما ليس من الحياة التي نعرف، بل ليس من حياةٍ يعرفها أحد. واسمي أيضًا كان هناك، يتزاحم. لكنه لم يعُد اسمي، لم يعُد لي، اسمي أصبحَ لفيفًا من الرجال والنساء والأطفال. اسمي الذي ألِفتُ وأحببتُ طيلة حياتي قد هجَرني، فنَما واستحالَ عناقيدَ هائلة من القتلى، كُتَلًا بشريّة سائغة للطحن والحرق والتلاشي، اسمي أصبحَ: لا شيء! حاولتُ ألّا أبحث عنه بعد، فكيف يكون اسمكَ: لا شيء؟! لكن كيف تمضي في هذه الحياة ولا اسمَ لكَ؟!

كيف أمضي؟! هاتفتُ فادي العبد الله. "إيه، هلا خالد خال" أتاني صوتُه الهادئ، يناديني باسمي وكأنّ الحروب والمحارق لم تكُن، بل لم توجَد يومًا. "فادي، كل هاي الأسئلة اللي عم تسألني إياها عالتشات آخر أسبوعين؟ حول العَروض وما وراء العروض، وحول كتابي، إذا أنا متذكّر منه أي شيء أصلًا؟ أرجووك! جمّعها بملفّ واحد، وإبعثلي إياها. أرجوك إجبِرني أقعد أفكّر وأجاوبك عليها. أرجوك إبعدني عن شاشة التلفزيون. هيك انت بتكسب حسنة، بل حسنات في الجنّة لأنك بتنقذني من هاي الحرب الوسخة!".

اعلان

قال: "إيه، أكيد! بكل سرور، مع إنه موضوع النبر إنت بذاتك كنت قايل عنّه: شائك ومعقّد..". قاطعتُه بقلّة صبري المعروفة: "لا تقلق يا صغيري، لا تقلق! راح نفكّكُه ونفكّك سنسفيلُه كمان، إنت بس إبعث يزلمة". أضاف بخنجره المهذّب: "أكيد سمعت تسجيلات درويش الحريري اللي بعثتلك من يومين؟ وأكيد سمعت المخاتلة ما بين "عجَم" و"أوج" بعد الخانة على طول؟".

"آااه طبعًا طبعًا، ولووو؟". إذ كيف أقول لفادي إن النغم لم يعد يعني لي شيئًا؟ كيف أشرح لهذا المُنقِذ، طيّب النوايا، أن عفريتة الموسيقى قد هجرتني هي الأخرى مع اسمي؟ لم تعُد تأتي إلى غرفَتي ولا تشاركني حمّامي، ولا عدتُ حتّى أسمعُ خرفشتها في قُمرة سيارتي حيث كانت توافيني دائمًا. في سيارتي كانت ولادة كلّ فكرة نغميّة تخيّلتها في حياتي، جميعها وُلِدَت من دندنةٍ همستها العفريتة المقيمة هناك. لم تكن تخشى شيئًا، لا الزنّانات التي أدمَنَت انتهاك ليل رام الله، ولا فوهات الدبابات ولا حتى حافلات المسافرين الملتصقة بنا والمعرضة للانفجار كل لحظة. لا شيء أسكتَ دندنتها ما دمنا وحيدَين تمامًا، دائمًا أرافقها. تنطلق سجيتانا بالشدو حتى الطبقات العالية، وكأن المدافعَ اختفَت كلُّها.

لا بد من سفرٍ إذًا، علّ المدافع تختفي؟ لم تكد سيارتي تقطع كيلومترات معدودة تاركةً العاصمة المُجيّشة خلف ظهرنا حتى عاد وجهه! هو - من هربت منه ومن شاشة البلازما - قد عاد لينشر نفسَه على اتّساع الواجهة الزجاجية أمامي. ولدٌ في العاشرة، اتسعت حدقتاه كفنجاني قهوة طافحين، كهاويتين سوداوين مستديرتين تطلّان من العالم السفليّ، لم يعد يحيطهما البياض. ماذا رأى لتتسع حدقتاه إلى هذا الحد؟ لم يقُل. هو لم يعد يقولُ شيئًا. كانت العرب تقول: إنَّ رُوحَ القَتيل الذي لا يُدرَك ثأرُه تَصِيرُ هامةً فتَزْقُو فوق رأسه تقول: اِسْقوني، اِسْقُوني!

أكُلّ الصباحات تمضي حقًا إلى غير عودة؟ غير صحيح، هي ذي صباحاتنا تستنسخ نفسها، تتكرر وتتناسل عائدةً بلا خجل. كل صباح يشرق على مجزرة، وكل مجزرة هي هشتاغ سريع التبخّر. تمامًا كهذا الولد المحدّق بي الآن. عيونه سوداء كعيون والدي، هل اتّسعت حدقتاه هو أيضًا إلى هذا الشكل الجهنّمي حين وقف أمام فوهة رشاش الإعدام في نكبة 48؟ أم إن نكبته تطأطئ رأسها أمام نكبتنا الجديدة بالألوان والبث المباشر؟ وكيف لنكبة أن تطأطئ رأسها؟ وكيفَ لموسيقى أن تُسمَع بعد اليوم على سطح هذا الكوكب العبثيّ؟ أي صوتٍ يكون للنغم منذ الآن؟ أيكون صوت العود الوقور الفضيّ قائلًا: "تن تن"؟ أم "تن تن تنن"؟ فعلًا؟!

لا، لا أظنّ ذلك! هذه الحدقات تطلب عويلًا لا قطراتٍ من فضة ذائبة. فليكُن عويلًا من نصال الخناجر التي شحذها باخ، في مقطوعةٍ للكمان المنفرد، أسماها "سربَند"، بسلم ري صغير. بحثت عنها في البلايليست، وجدتُها، "نعم أنتِ، لم يعُد بالمعقول موسيقى غيرك".

اعلان

كعويل هاماتٍ عطشى تكاثفت النغمات في فضاء سيارتي تلك اللحظة، جميعها تزقو: اِسْقُوني اِسْقُوني!

بول مخلوف (كاتب لبناني)

بول مخلوف
بول مخلوفيورونيوز

تغير كل شيء‎ عقب قصف مستشفى المعمداني. عندها خرجت الحرب عن طورها؛ استفاقت الإبادة من العناية الفائقة، ودخلنا في مرحلة الطوارئ. كان مسار الأحداث كالتالي: حلّق المقاومون فوق الأسوار وحطّوا في أراضٍ محتلّة، وهذا التحليق بحد ذاته كان انتقاماً من التاريخ واستعادة للمنزل المسلوب. لأول مرة في تاريخ فلسطين، كان المُستعمَر في حالة هجوم على المُستعمِر، إنه "حدثٌ" بكل المعايير، وكانت الأعين كلها متسمرة على الخطوة التالية، مع توترٍ كتوم من ردة الفعل.

‎عندما قصف الاحتلال مستشفى المعمداني، خطا خطوةً تبدو للعاقل مستحيلة، يعني ارتكابه علناً ومباشرةً جريمة حرب فادحة بقتل مدنيين ومصابين وأطباء، لكنه بقيامه بهذا "المستحيل"، أراد الانتقام من تلك الفعلة "المستحيلة": الطيران. قصف المستشفى المعمداني ثأرٌ من ذاك التحليق، مارس عقابه في تحويله مدينة إلى مقبرة، بدأها بضرب مستشفى المعمداني، معلناً بذلك أنّ المرحلة القادمة عنوانها الموت. آنذاك وقعنا في مأزقٍ، لقد فقدَ الخطاب السياسي معناه؛ الإبادة طاولت اللغة، راحت تصاريح إسرائيلية تشحذ بلاغتها من مزرعة الحيوانات، أما "الإنسانويون" فقد نددوا، شفهياً، "بالحرب"، وطلبوا إيقافها، لم يقولوا في بادئ الأمر إن هناك جرائم أو إبادة، بل إنها حرب ويجب أن تتوقف، بدون أن ينسوا، طبعاً، إدانة "الطيران"، أي السابع من أكتوبر. كان لا بدّ من التشديد على أهمية 7 أكتوبر، ودعم المقاومة، والإصرار عليها، لكن كان هناك أيضاً صمود أسطوري للفلسطينيين، وإبادة تجري بحقهم، وبين الموقفين كان هناك مأزق جديد. فالكلام عن بطولة يحققها الأول قد تدفع إلى التغاضي عن مآلات الثاني، فيما الانصياع للثاني قد يؤدي إلى تعليق فعل المقاومة، بالتالي الإذعان والاستسلام. حاولنا في ملحق إنّما بقدر الإمكان الموازنة بين الموقفين. كان الشعور بالذنب جراء عدم القدرة على تحويل النص إلى قنبلة، حيث الفلسطينيون يواجهون الإبادة المهولة. رحنا نواجه، بقدر ما نستطيع، بالكتابة، لم تكن الشاشة قادرة على فصلنا عن الحدث وزجّنا في خانة المتفرجين. الأشلاء والجثث التي كنا نراها في غزة كانت دامغة في يقظتنا وتلاحقنا في المنامات؛ كنا نشعر بحرارة الدماء المسفوكة، ونسمع صراخ من هم تحت الأنقاض. أمام ملحمة عصرية كهذه تلجأ اللغة إلى المجاز. لا أقول إننا قفزنا فوق محاكاة الواقع؛ لقد كتبنا عن حفلة الرعب تلك، عن "هالوينية" حاصلة لا أقنعة فيها بل وحوش وأسماؤهم معروفة، غير أننا استعنّا بالاستعارة لفك عقدة اللسان، ولتضمين بعض المعنى في خطاب سياسي داعم للمقاومة لكنه قاصر، غير قادر على المواءمة بين أرواحٍ تزهق وقذيفة لا بدّ منها. هكذا، صارت عبارات مثل "أكلة لحوم البشر وشركاؤهم"، "مستشفى الشفاء: الحياة مقابل الموت"، "هالوين: أهلاً بك في غرة"، ثيمات نشتغل عليها. أعرف كثيرين ممن تغيرت مواقفهم في هذه الحرب، التي لم تنتهِ. لا أتكلم على فقدان الشهية عن الطعام بسبب ما جرى، وما يجري حيث إماتة الفلسطينيين ترتكز على تجويعهم، ولا أقصد فقدان القدرة على النوم، بل أعني أن كثيرين لم يعودوا كالسابق، لا من حيث القناعات ولا من حيث الخيارات السياسية والأيديولوجية. فهذه الحرب في جانب من جوانبها فضيحة لليبرالية لا تني تعرّف عن نفسها بأنها نهاية التاريخ، غير أنها، وقد امتُحنت، نهاية الإنسان.

ريم نجمي (إعلامية وروائية مغربية)

إذا فتحت مذكرتي الخاصة، ستجدين أن أغلب ما كتبت في الأشهر الماضية كان عن الحرب، قصائد ونصوص ورسائل افتراضية... كنت أهدئ نفسي بالكتابة التي أصبحت نوعاً من العلاج الروحي للتغلب على مشاهد الموت ومشاعر الخوف والحزن الشديد.

في الأشهر الأولى من الحرب كنت أنام على صوت المراسلين من هناك، أعيش تفاصيل الحرب لحظة بلحظة ليس فقط بحكم عملي الصحفي ولكن كان لدي أصدقاء أعزاء من كتاب وصحفيين في القطاع أتتبع أحوالهم وأحوال مناطقهم من خلال نشرات الأخبار، خاصة عندما تنقطع الاتصالات كليا عن القطاع ويصبح التواصل مستحيلا.

اعلان

مرت عليّ أيام شعرت فيها بالعجز المطلق، ما الذي يعنيه أن يكون لديك أصدقاء مهددون بالموت كل لحظة ولا تملك أن تفعل لهم شيئا!؟

خلال هذه الفترة اقتربت أكثر من أصدقائي وزملائي الغزاويين في برلين،كنت أرى كيف تأخذ الحرب جزءا من روحهم وجسدهم كل يوم، الكثير منهم فقد وزنه بطريقة مقلقة وامتنع عن الكلام، صرنا نتقاسم عجزنا وألمنا ونتبادل القليل من كلمات الصبر والأمل ونطرح السؤال نفسه عند نهاية كل حديث:"متى ستنتهي الحرب؟".

فائقة قنفالي (كاتبة تونسية)

أصبحت فلسطين منذ أكتوبر هي حياتنا اليومية.. خصصت أكثر من درس فلسفة للنقاش حول فلسطين ضمن مشكل الهوية الذي أدرسه لتلامذة الباكلوريا و ضمن درس الوعي بالمغالطات لتلاميذي السنة السابقة لها.

لأكتشف وعياً جديداً بالهوية عكس الذي تروج له الميديا، فالحرب التي كان يراد بها تدمير آخر قلاع المقاومة أصحبت في وجه آخر خفيّ، محرك وعيّ جديد لا في العالم العربي فقط بل في العالم بأسره تجاه من لا صوت لهم.

ربما الأصعب في هذه الحرب هو أسئلة ابنتي ذات الثمانية سنوات التي تسمع أخبار الحرب معنا وفي المدرسة تحيّي علم فلسطين مع علم تونس وفي درس الموسيقي تتعلم أغاني عن فلسطين: من فلسطين؟ لماذا توجد فيها حرب؟ لماذا أطفالها مشردين؟ أليسوا أطفالا مثلنا ويجب أن يكونوا في مدارسهم وفي بيوتهم مع عائلتهم؟ كيف يمكن أن ننقذهم يا أمي؟

اعلان

وكل يوم تسأل لماذا لا يوجد بطل خارق مثلما هو الحال في الكرتون ينقذهم؟ وحين أخبرها أن لا وجود لهؤلاء الأبطال خارج الشاشة تسألني لماذا لا ينقذهم الله؟

شارك هذا المقالمحادثة

مواضيع إضافية

وول ستريت جورنال: حماس رفضت المقترح الأمريكي للهدنة في غزة وستقدّم اقتراحًا بديلًا

تقرير: حجم الدمار في غزة يتجاوز بأضعاف الخراب الذي خلفته الحرب في حلب خلال ثلاث سنوات

أندريه غوغنين يفوز بالجائزة الأولى بقيمة 150000 يورو في المسابقة الدولية للبيانو الكلاسيكي لعام 2024