وما تزال سلطات الدول الأوروبية ذات الصلة تتنازع قضية المهاجرين غير النظاميين باتباع نهج أمني أكثر صرامة، من خلال الترحيل القسري والإيقاف الفوري، بينما من الصعب للغاية حل المشكلة باعتماد المقاربة الأمنية وحدها.
تظل مسألة المهاجرين غير النظاميين من تونس من ليبيا عبئا ومشكلة خطيرة بالنسبة لتونس والدول الأوروبية.
ورغم الجهود المبذولة للسلطات من كلا الجانبين للحد من آثار الهجرة غير النظامية، فإن الوضع ازداد سوءا، بزيادة عدد المهاجرين التونسيين ومن جنسيات أخرى وصلوا إلى إيطاليا، مما حدا بالوفد الإيطالي الأوروبي إلى عقد محادثات باستمرار مع المسؤولين التونسيين.
كان آخر لقاء بين الرئيس قيس سعيد ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال في قصر قرطاج، حيث جدد الرئيس التونسي بالمناسبة الدعوة إلى مقاربة متكاملة بشأن قضية الهجرة، تتعدى المقاربة الأمنية لمواجهة الأسباب العميقة للمشكلة، أي الفقر والبطالة.
وتعود الحاجة الملحة لهذه المحادثات إلى عدد المهاجرين الذين يصلون إلى السواحل الإيطالية "عبر المسالك والخرائط المعهودة للهجرة غير النظامية".
فوفقا للإحصائيات التي كشف عنها مؤخرا التقرير السنوي، حول الهجرة غير النظامية لعام 2020 للمنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية في تونس، ارتفع عدد المهاجرين غير النظاميين، حيث تجاوزت الاحصائيات 12700 مهاجرا ، في حين تشير احصائيات وزارة الداخلية التونسية إلى 8696 مهاجرا. وكما أشار التقرير "هناك اشكالية حول احصائيات الهجرة غير النظامية" المتضاربة.
تتقاطع المبادرات السياسية مع أهداف الفنون من أجل التوعية بمخاطر هذه الظاهرة. ومن بين هذه المبادرات الجديدة مسلسل"الحرقة" الذي يتم عرضه مساء كل يوم على القناة الوطنية التونسية الأولى.
وتكاثفت في هذا المسلسل الصور الموجعة التي تصور هلع الموت والضياع وكل عواطف معاناة الآباء ولوعة الأمهات من جراء هذه الظاهرة، ولعل تلك الصور تجد صداها في نفوس الشباب التائق للهجرة.
معظم أخبار المهاجرين التونسيين غير النظاميين وقصصهم من الذين يعيشون في أحواز المدن والأحياء الفقيرة مؤلمة ومحزنة، فبعض الذين وصلوا إلى إيطاليا ينحدرون من أحياء فقيرة مثل حي الانطلاقة وحي التضامن والكبارية والملاسين... في هذه الأماكن يشعر الأهالي بالحسرة على وضعهم، هم غاضبون من النخبة الحاكمة وملّوا قصص الهجرة المؤلمة، وأصبحوا عاجزين عن كبح جماح الرغبة المغامرة والجنونية التي تحرّك أبناءهم.
الوكالة الأوروبية لحرس الحدود وخفر السواحل تعلّق عملياتها في المجر لهذه الأسباب
محكمة العدل الأوروبية تدين المجر وتتهمها بـ"انتهاكات حق طالبي اللجوء"
أتيحت لي الفرصة للتحدث مع بعض المهاجرين التونسيين العائدين من إيطاليا. يعتبرون أن خطاب الطبقة السياسية مظللا ومجحفا، وأن الأزمة العميقة التي تتخبط فيها البلاد بمختلف مظاهرها تزيد من إحباطهم، لذلك تجدهم متحمسين للعودة إلى الدول الأوروبية رغم إيقافهم وإعادة ترحيلهم القسري.
إنهم مصرون على العودة والمحاولة مرات عدة إن لزم الأمر، والمؤسف أن يكون من بينهم أطفال من المفترض أن يكونوا في المدرسة أو في رعاية أسرهم.
تحت واجهة أحد المقاهي الشعبية بالعمران الأعلى من أحواز تونس، قال وسيم وهو يحتمي من المطر في ذلك المساء البارد: "لقد شملني الترحيل القسري مؤخرا بعد عام ونصف متنقلا بين المدن الإيطالية، هناك عانيت من البرد والجوع بشكل غير مسبوق، لكنني سأعود...لا يهمني أن تكون ايطاليا بؤرة لتفشي وباء كورونا و لا تهمني ممانعة أفرد العائلة... إنها مسألة وقت وسيتحقق حلمي هناك".
ويتحدث وسيم مستخدما إشارات الواثق، غير آبه بالهلاك والموت المحدق، إن اختار الهجرة غير النظامية مرة أخرى، ويقول إنه أدمن في السابق على مشاهدة بعض فيديوهات "الحرقة" ورسائلها المحفزة، التي يرسها شباب مبتهج، من قواربهم أو بعد وصولهم مباشرة "، معلقا" إنها سعادة وقتية تغمر أولئك المهاجرين بالنجاة ، لكن ستعقبها تجربة عسيرة ومعاناة قاسية ولكل واحد حظه".
وما تزال سلطات الدول الأوروبية ذات الصلة تتنازع قضية المهاجرين غير النظاميين باتباع نهج أمني أكثر صرامة، من خلال الترحيل القسري والإيقاف الفوري، بينما من الصعب للغاية حل المشكلة باعتماد المقاربة الأمنية وحدها.
هناك شبه إجماع أنه بهدف إيجاد الصيغ المناسبة للتعاون الثنائي والفعال، لا بد من معالجة هذه الظاهرة من مختلف جوانبها، بعيدا عن الضغوط والخطابات السياسية الملتهبة والمليئة بالكراهية التي تغذي الأفكار العنصرية.
النخبة السياسية التونسية ترى أنه يتعين على هذه الدول أن توفر المساعدة الضرورية للتخفيف من حدة الظاهرة وإيجاد الحل المناسب، من خلال تشجيع الشباب على الاستقرار في تونس وإقامة مشاريع صغيرة ترافقها الإحاطة والتوجيه ، لاستبعاد فكرة" الرغبة في الهجرة والرحيل".
وفي المقابل فإن هذه الطبقة السياسية مطلوب منها العمل بجدية على إعادة الثقة للشباب المحبط،، في سعي إلى التعاون مع المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام النشطة.
لعله من الضروري على الجميع التوجة إلى المدن والأحياء الفقيرة، لإشراك الشباب في نقاشات توعوية بالآثار السلبية للهجرة غير النظامية، والبحث عن وسائل أخرى مثل التدريب المهني المناسب وبرامج تعلم اللغات ومناقشة جميع القضايا التي تغذي الهجرة.
إن هذه الاجراءات وغيرها ستمكن من إدارة أزمة الهجرة بشكل أفضل، وقد يعود المرحّلون من هذا الشباب إلى الضفة الأخرى من البوابة النظامية، بشهادة كفاءة مهنية ومعرفة ولو بسيطة بلغة الآخر، وهو ما يطمح له عدد من الشباب العاطل الذين نتحدث معهم باستمرار، هؤلاء لا يريدون أن يكونوا مطاردين ومشردين في الضفة الأخرى، يضنيهم الجوع، ولا يريدون الانسياق في عالم الجريمة والمخدرات، هم فقط ينتظرون الفرصة الملائمة، لينطلقوا في ترجمة أحلامهم الهادئة.
الشاذلي بن رحومة
مساعد رئيس تحرير موقع Tunisan Monitor Online (English Version)
المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر يورونيوز