يصل البابا ليو الرابع عشر إلى لبنان في 30 تشرين الثاني، في ظلّ القلق الذي يعيشه اللبنانيون من احتمال اندلاع حرب شاملة، فهل يمكن لهذه الزيارة أن تشكّل نافذة لفرملة التصعيد، أم أن أي قرار إسرائيلي بالحرب لن يتأثر بثقل الكرسي الرسولي؟
اختار البابا لبنان، إلى جانب تركيا، كأول محطة خارجية له منذ انتخابه، في خطوة قرأتها الأوساط اللبنانية على أنها رسالة دعم لبلد جريح أنهكته الحروب والانهيارات والنزوح الواسع، كما رأت في الزيارة رغبة في إعادة إدراج لبنان على الخريطة الدولية وإحياء الاهتمام بمعاناة شعبه. ورغم أن برنامج البابا لا يشمل جولة جنوبية، فإن أصواتًا مسيحية من القرى المنكوبة في الجنوب عبّرت عن رجاء بأن تمنح الزيارة قوة للبقاء في أرض تراجعت فيها مقومات الحياة تحت وطأة الغارات.
هذا البعد الروحي يتقاطع مع لحظة إقليمية حسّاسة، حيث يتواصل التصعيد الإسرائيلي رغم اتفاق وقف إطلاق النار الذي تمّ التوصل إليه في السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2024. وقد أكدت مصادر وزارة الصحة اللبنانية لـ"يورونيوز" وقوع أكثر من 340 قتيلًا ونحو 1300 جريح منذ دخول الاتفاق حيّز التنفيذ، فيما وثّقت اليونيفيل أكثر من 7300 انتهاك جوي و2400 نشاطًا عسكريًا شمال الخط الأزرق.
على هذه الأرضية المضطربة، حيثُ الضغوط الدبلوماسية الأمريكية تترافق مع مطالبات بنزع سلاح حزب الله، تُطرح فرضية أن وجود البابا في بيروت قد يشكّل "فرملة" مؤقتة لأي قرار إسرائيلي بالتصعيد، ولكن مقابل هذه القراءة، ثمّة من يجزم بأن الاعتبارات العسكرية لدى الدولة العبرية تبقى العامل الحاسم.
درع دبلوماسي.. أم تأجيل مؤقت للحرب؟
تحمل زيارة البابا إلى لبنان أسئلة تتجاوز البعد الروحي إلى مقاربة حسابات الحرب والسلم، فبين حديث اللبنانيين المتكرر عن أنّ الحرب قد تندلع بعد مغادرته، وبين الرهان على رمزية حضوره كـ"فرملة" مؤقتة للتصعيد، يبرز السؤال: هل يمكن لثقل الفاتيكان، ولعلاقاته مع العواصم المؤثرة، أن يرفد المساعي الدولية الجارية لتفادي حرب شاملة؟
في هذا السياق، يقدّم المحلل السياسي سركيس نعوم مقاربته، معتبرًا أن "إسرائيل، بوصفها دولة مرتبطة بالمنظومة الغربية وبالحسابات الأمريكية، لا تقدم عادةً على خطوات كبرى تتعارض مع مصالح حلفائها أو تضعها في موقف محرج أمام المجتمع الدولي". وبالتالي، فإن دخولها حربًا واسعة خلال وجود البابا في بيروت يبدو احتمالًا ضعيفًا، ولو مرحليًا.
ويرى نعوم في حديثه مع "يورونيوز" أنّ إسرائيل "رغم كونها دولة عدوّة ومتوحّشة"، بحسب تعبيره، تبقى دولة تعرف أصول العمل السياسي ولا تستطيع تجاوزها، معتبرًا أن أي ضربة كبيرة قبل وصول البابا "ستُفهم وكأنها استهداف لزيارة بابا المسيحيين، وستبدو كعمل يضرب المعنويات التي يحاول بثّها لدى اللبنانيين عمومًا، ولدى المسيحيين خصوصًا".
ويرى أنّ إسرائيل لا تبدو في عجلة من أمرها: الحرب بالنسبة لها لم تنتهِ أصلًا، ويمكنها تأجيل أي خطوة بلا كلفة تُذكر، بدل الوقوع في "مأزق دولي" أو مواجهة المجتمع المسيحي العالمي.
أما بالنسبة إلى الدور المحتمل للزيارة في كبح أي تصعيد، فيشير نعوم إلى أن "المنع هنا مؤقت وواقعي في الوقت نفسه: "من غير المنطقي أن تشنّ إسرائيل حربًا جديدة على لبنان في وقت يستعدّ فيه البلد لاستقبال البابا… لا مصلحة لها في ذلك."، لكن المحلل السياسي يحذر، في المقابل، من الإفراط في التفاؤل، فالتأجيل لا يعني الإلغاء، والتهديد مستمرّ، بينما اللبنانيون أنفسهم مدعوون - بحسب رأيه - إلى مساعدة البابا والدول الأخرى في اتخاذ مواقف تساهم في جمع الصفّ الداخلي: "بدون جمع اللبنانيين، لا توجد نهاية للحرب. قد تتوقف الحرب مؤقتًا، لكنها قد تعود بعد سنوات".
الثقل البابوي والمسار الدبلوماسي
يصف نعوم الرهان على تأثير الكرسي الرسولي بأنه "رهان كبير" له ما يبرره، لكنه محدود، فالفاتيكان بما يمثله من ثقل روحي وسياسي قادر على التواصل مع مختلف الدول، إلا أنّ قدرته على التأثير الفعلي تبقى مرتبطة بتقاطع المصالح الدولية.
ويستعيد مثال الاتحاد السوفيتي وبولونيا، حين تمكنت الباباوية من لعب دور تاريخي "لأن الحافز البابوي التقى بحافز أمريكي واضح". أما إذا غاب هذا التقاطع، فإن قدرة الفاتيكان على تحقيق تغيير كبير في ملفات شائكة، ومنها نزع سلاح حزب الله، تصبح محدودة.
إذاً، يبدو أن أي دور للفاتيكان في المسار الدبلوماسي الحالي المتعلق بلبنان سيبقى محكومًا بمدى انسجامه مع المصالح الأمريكية والغربية، فالملف مرتبط بتوازنات دولية تتجاوز قدرة أي جهة روحية على تغييرها بمفردها.
الرسائل البابوية وحدود التأثير
في قراءة أبعاد الزيارة بالنسبة إلى مسيحيي الشرق الأوسط، يلفت نعوم إلى أن الخطاب البابوي يبقى خطاب سلام وتثبيت للعيش المشترك واحترام بين الأديان، لكنه يعيد التأكيد على أن "التأثير الحقيقي يأتي من الداخل اللبناني، لا من الخارج"، إذ يؤكد أن الزيارات البابوية السابقة لم تغيّر مسار النزاعات أو البنى السياسية، وظلّت التحولات الكبرى تحصل بمعزل عنها.
وبالنسبة إلى الطروحات التي تعتبر الزيارة رسالة تحذيرية للسلطة، يرفض نعوم هذا الربط، مشددًا على أن دور البابا هو إعادة إحياء الإيمان بالعيش المشترك، لا الدخول في لعبة التوازنات الداخلية. ويضيف أنّ التحالفات القائمة في لبنان، وخصوصًا التحالف الشيعي اللبناني ـ الإيراني، تعمل وفق مصالح خارجية، بينما "لم يتعلم اللبنانيون بعد أن عليهم التحالف فيما بينهم لبناء دولة مدنية.. وبدون ذلك لن يبقى لبنان".
أما بشأن قدرة الزيارة على تحفيز شركاء الفاتيكان لتقديم دعم إضافي للبنان، فيوضح المحلل أن حلفاء الفاتيكان وشركاؤه، مثل فرنسا وإنكلترا وألمانيا والولايات المتحدة، يتحركون أساسًا في الملف اللبناني، وأن المواقف البابوية قد تساعد في تعزيز هذه الجهود، لكنه يشدد على أن الدعم الحقيقي يحتاج إلى رؤية لبنانية تجمع مصلحة المسيحيين والمسلمين على حدّ سواء وتؤسس لـ"إعادة إنتاج وطن لبناني جديد ودولة جديدة"، معتبرًا أن هذا هو جوهر الرسالة التي ينبغي تلقّفها.