يشير المرصد المالي لصندوق النقد الدولي إلى تدهور تدريجي ومستمر في آفاق المالية العامة لمنطقة اليورو، مع توقعات بارتفاع العجز الكلي من 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي في 2025 إلى 3.7% بحلول 2030، أي فوق الحد المسموح به في معاهدة ماستريخت البالغ 3%.
تشهد أوروبا موجة جديدة من الإنفاق الحكومي، مدفوعة بخطط التحفيز في ألمانيا وزيادة موازنات الدفاع، ما يدفع مستويات الديون العامة إلى الارتفاع مجددًا.
وبينما تضخ الحكومات الأموال في اقتصاداتها، يحذر الخبراء من أن الأسواق المالية أصبحت أقل تسامحًا مع السياسات التوسعية، في وقت تستعد فيه السياسة المالية لاستعادة موقعها في صدارة المشهد الاقتصادي لمنطقة اليورو.
تركيز جديد على العجز واستدامة المالية العامة
مع اقتراب عام 2026 وكشف الدول الأعضاء في منطقة اليورو عن ميزانياتها الجديدة، عاد التركيز مجددًا إلى مؤشرات العجز والديون واستدامة المالية العامة، بعد فترة من التراجع النسبي عقب جائحة كورونا.
ويشير المرصد المالي لصندوق النقد الدولي إلى تدهور تدريجي ومستمر في آفاق المالية العامة لمنطقة اليورو، مع توقعات بارتفاع العجز الكلي من 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي في 2025 إلى 3.7% بحلول 2030، أي فوق الحد المسموح به في معاهدة ماستريخت البالغ 3%.
ويتوقع الصندوق أن ترتفع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو من 87.8% في عام 2025 إلى 92.2% بحلول 2030، مع تفاوت كبير بين الدول:
فرنسا: من 116.5% إلى 129.4%.
بلجيكا: من 107.5% إلى 122.6%.
ألمانيا: من 64.4% إلى 73.6%.
إيطاليا: استقرار نسبي عند 137%.
إسبانيا: انخفاض من 100.4% إلى 92.6%.
البرتغال: تراجع من 90.9% إلى 77.4%.
اليونان: من 146.7% إلى 130.2%.
ومن المتوقع أن تنخفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في أيرلندا بشكل مطرد من 33.0% في عام 2025 إلى 28.2% فقط بحلول عام 2030، بينما تشهد هولندا زيادة تدريجية من 44.0% إلى 48.5%
وتشير هذه الأرقام إلى انقسام واضح بين دول تخفض أعباءها المالية وأخرى تغرق أكثر في الديون.
التحفيز الألماني وتحديات فرنسا المالية
يتوقع محللو جولدمان ساكس أن تصبح السياسة المالية محور الاهتمام الاقتصادي في عام 2026، مدفوعة بالحزمة المالية الألمانية الجديدة وزيادة الإنفاق الدفاعي واستمرار ضغوط الموازنة في فرنسا.
ففي ألمانيا، من المنتظر أن يرتفع العجز من 2.9% إلى 3.7% من الناتج المحلي الإجمالي، نتيجة حزمة إنفاق ضخمة أُقرت مطلع عام 2025.
أما فرنسا، فتواجه مأزقًا سياسيًا يعيق ضبط أوضاعها المالية، حيث لا يتوقع أن يتحسن العجز إلا بشكل طفيف من 5.4% إلى 5.3%.
وكتب كين إيجان، المدير الأول في وكالة KBRA، في تقرير شاركه مع يورونيوز: "ضمن أكبر السندات السيادية في أوروبا، تبدو فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا تحت الضغط، في حين تبرز البرتغال وأيرلندا واليونان كأفضل أداء نسبيًا".
فقد ساعدها النمو الاسمي المرتفع والإصلاحات المالية على كسب ثقة الأسواق، وإن كان تأثيرها محدودًا بسبب صغر حجم سنداتها السيادية مقارنة بدول كبرى مثل فرنسا وألمانيا.
وتتوقع وكالة KBRA أن ترتفع نفقات الدفاع في أوروبا إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2035، وهو ما سيؤدي إلى زيادة العجز بمقدار 0.9 نقطة مئوية بحلول 2030، حتى مع الدعم الأوروبي عبر آليات مثل مرفق التعافي والمرونة.
كما تمثل الشيخوخة السكانية والتحول المناخي عوامل ضغط طويلة الأمد على الموازنات الوطنية.
هل عاد "حراس السندات" إلى أوروبا؟
مع تصاعد الإنفاق الحكومي، تشير مؤشرات السوق إلى أن المستثمرين أصبحوا أكثر حذرًا.
ووفقًا لوكالة KBRA، فإن "أسواق السندات باتت أكثر يقظة، والمستثمرون يعيدون تسعير المخاطر ويختبرون مصداقية السياسات المالية".
فـ"حراس السندات" — وهم المتداولون الذين يبيعون السندات احتجاجًا على السياسات المالية التوسعية — يبدو أنهم عادوا إلى الساحة الأوروبية.
ومن المتوقع أن يُعاد تمويل ما بين 40 إلى 45% من الدين العام الأوروبي خلال ثلاث سنوات، ما يجعل ارتفاع العائدات مصدر قلق متزايد.
وتقدّر KBRA أن ارتفاع العائدات بمقدار 100 نقطة أساس يمكن أن يرفع نفقات الفائدة السنوية بنحو 0.46% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل 20 مليار يورو في ألمانيا أو 10 مليارات في إيطاليا.
ويؤكد المحلل كين إيجان أن "التركيز يجب أن يتحول من الإنفاق الأكبر إلى الإنفاق الأفضل"، داعيًا إلى مراجعة أكثر صرامة للميزانيات وتوجيه الاستثمارات نحو المجالات التي تخلق قيمة مضافة طويلة الأجل.
أوروبا أمام اختبار الثقة المالية
تدخل منطقة اليورو مرحلة مالية جديدة تتسم بتباين السياسات بين دولها، وارتفاع مستويات الدين، وسوق سندات أكثر تفاعلًا مع المخاطر.
ورغم ما تتمتع به الكتلة من عمق في أسواق رأس المال ومرونة مالية، إلا أن السنوات المقبلة ستشكل اختبارًا لمصداقية الحكومات في ضبط أوضاعها المالية وقدرتها على تحقيق توازن بين النمو والاستدامة.
ومع حلول عام 2026، يبدو أن السياسة المالية لم تعد مجرد خلفية صامتة، بل عادت لتكون في صميم المشهد الاقتصادي الأوروبي.