منذ أعوام، يعيش سكان غزة تحوّلات مناخية غير معهودة، فالمنخفضات الجوية التي تضرب القطاع لم تعد تشبه مواسم الشتاء التي عرفها السكان سابقاً، والأمطار التي لطالما كانت رحيمة باتت اليوم أشد قسوة، فضلًا عن ارتفاع درجات الحرارة صيفاً بصورة لافتة، فما علاقة الحروب بهذا الواقع المناخي الجديد؟
هذا الشتاء، كما الشتاء الماضي، كان قاسياً على سكان غزة، فالأمطار الغزيرة أغرقت آلاف الخيام في مختلف مناطق القطاع، فيما حذّرت منظمات إنسانية من تداعيات منخفض جوي قطبي على حياة مئات آلاف النازحين الذين يعيشون في خيام بدائية منذ أكثر من عام.
ولكن ما يبدو ظاهرة موسمية لا يمكن فصله عن الحروب الإسرائيلية التي تعاقبت على غزة، فقد أظهرت الدراسات أن الانبعاثات الناتجة عن العمليات العسكرية ضخمة، وتتجاوز الانبعاثات الكاملة لعدد من الدول.
والحروب، بحسب خبراء البيئة، تسرّع الكوارث المناخية والبيئية وتدمّر القدرة على التكيّف المناخي، ما يجعل القطاع أكثر عرضة للتقلبات المناخية وموجات الحر والجفاف والمخاطر الطبيعية، وآثارها قد تزيد من هشاشة غزة وتحدّ من قدرة المجتمع على الصمود.
الانبعاثات العسكرية في غزة
تقدّم دراسة، نُشرت عبر شبكة أبحاث العلوم الاجتماعية، صورة دقيقة عن حجم الانبعاثات المرتبطة بالعمليات العسكرية الإسرائيلية. وتبيّن الدراسة أنّ الأسلحة والدبابات والذخائر التي استخدمتها القوات الإسرائيلية مسؤولة عن 50% من الانبعاثات. وتشير إلى أنّ حرق الوقود الأحفوري يفاقم الفوضى المناخية التي تتجلّى في الجفاف والتصحّر والحرارة الشديدة وعدم انتظام الأمطار، وصولاً إلى تدهور البيئة وانعدام الأمن الغذائي ونقص المياه.
وتقدّر الدراسة أن التكلفة المناخية طويلة الأمد لعمليات التدمير وإزالة الركام وإعادة بناء غزة قد تتخطى 31 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، وهو رقم يفوق إجمالي الانبعاثات الصادرة عام 2023 عن كوستاريكا وإستونيا مجتمعَتين. ومع ذلك، لا تلتزم الدول بالإبلاغ عن الانبعاثات العسكرية إلى هيئة الأمم المتحدة المعنية بالمناخ.
الدراسة، وهي الثالثة والأشمل لفريق بحثي بريطاني–أمريكي خلال 15 شهراً، وتخضع حالياً لمراجعة مجلة "وان إرث"، خلصت إلى أن أكثر من 99% من أصل 1.89 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون المسجلة بين 7 أكتوبر 2023 ويناير 2025 تعود إلى القصف الجوي والاجتياح البري الإسرائيلي.
وتوضح الأرقام أن نحو 30% من الانبعاثات في تلك الفترة نتجت عن شحن الولايات المتحدة 50 ألف طن من الأسلحة والإمدادات العسكرية إلى إسرائيل بواسطة طائرات وسفن انطلقت بمعظمها من مخازن في أوروبا. كما تعود 20% إلى انبعاثات مهام الاستطلاع الجوي والقصف وتشغيل الدبابات والمركبات العسكرية الإسرائيلية، إضافة إلى الانبعاثات الناتجة عن تصنيع وتفجير القذائف.
تكلفة إعادة الإعمار
بحسب الدراسة، يرتبط الجزء الأكبر من التكلفة المناخية بإعادة إعمار غزة التي حوّلتها إسرائيل إلى ما يقدّر بنحو 60 مليون طن من الركام السام.
تشير الدراسة إلى أن تكلفة إزالة الأنقاض ثم إعادة بناء 436 ألف شقة سكنية، و700 مدرسة، ومساجد وعيادات ومبانٍ حكومية ومكاتب عامة، إضافة إلى 5 كيلومترات من الطرق، ستولّد نحو 29.4 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون.
واعتمد الباحثون على مصادر مفتوحة وتقارير إعلامية وبيانات من منظمات إنسانية مستقلة، مرجّحين أن تكون التكلفة البيئية الفعلية أعلى بكثير بسبب القيود الإعلامية الإسرائيلية وصعوبة الوصول إلى بيانات شاملة حول الأراضي الزراعية المدمّرة، والتصحّر، وتأهيل التربة، والحرائق وغيرها من الآثار الكثيفة الكربون.
البيئة تفقد قدرتها على التعافي
فضلًا عن الحجم الضخم للانبعاثات، أدّت الحرب الإسرائيلية على غزة إلى تدمير مساحات واسعة من الغطاء النباتي والأراضي الزراعية، ما سرّع تدهور التربة وزاد مؤشرات التصحّر وخفّض قدرة البيئة على مواجهة آثار تغيّر المناخ.
كما تسبّب تدمير شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء في إضعاف قدرة القطاع على التكيّف مع الأزمات المناخية المتصاعدة. ومع تعطّل نظام جمع النفايات، تراكمت النفايات الصلبة ولجأ السكان إلى حرقها، ما أنتج غازات سامة رفعت معدلات تلوّث الهواء والمشكلات التنفسية.
وإضافة إلى ذلك، أدّى استخدام ذخائر محمّلة بمواد كيميائية ومعادن ثقيلة، وانهيار شبكات الصرف الصحي، إلى تلوّث التربة والمياه الجوفية والساحلية، مخلّفاً أضراراً طويلة المدى على النظم البيئية وقدرة غزة على استعادة توازنها البيئي دون تدخل وإعادة تأهيل واسعة.
ولا يقتصر أثر الحرب على التدمير المباشر، بل يمتدّ إلى الساحة الدولية، إذ أدّت العمليات العسكرية إلى إضعاف التركيز العالمي على قضايا البيئة وإبطاء مفاوضات المناخ، في لحظة يحتاج فيها العالم إلى أعلى مستويات التنسيق.
في ظل هذه التحوّلات البيئية والمناخية، كيف يمكن وقف هذا المسار المتسارع ووضع حد لتبعاته التي تتعمّق مع كل حرب؟ وهل يُمكن التدخل للحد من الكارثة من دون محاسبة الجهات التي فاقمت أعبائها المناخية والبيئية؟