لفترة طويلة، اختُزلت النظرة إلى السرطان في معادلة بسيطة: خلية تتحوّر جينيًا، ثم تفلت من آليات الرقابة في الجسم وتبدأ بالتكاثر بلا ضوابط. ومع الوقت يتكوّن ورم، تنفصل بعض خلاياه وتنتشر إلى أعضاء أخرى. لكن هذا النهج التقليدي تعرّض في السنوات الأخيرة لانتقادات واسعة.
بدأ العلماء يكتشفون أن السرطان لا يترتب حتمًا على الطفرات الجينية وحدها، بل يتأثر أيضًا بالبيئة المحيطة للخلايا وبالتوازن داخل الأنسجة.وقد تقود هذه الرؤية الجديدة إلى استراتيجيات وقائية ثورية، تغير طريقة مكافحة السرطان بشكل جذري.
الطفرات ليست العامل الوحيد
لطالما ارتبط السرطان بفكرة : خلية تتحور جينيًا، تهرب من رقابة الجسم، وتتكاثر لتشكل ورمًا قد ينتشر إلى أعضاء أخرى.
لكن الدراسات الحديثة أظهرت أن الطفرات المحفزة للسرطان موجودة بالفعل في خلايا الجسم السليمة، مثل ربع خلايا الجلد وأكثر من نصف بطانة المريء بعد سن الأربعين، دون أن تتسبب دائمًا في أورام.
ويرجع ذلك إلى التنافس الطبيعي بين الخلايا داخل الأنسجة، حيث يمكن للخلايا السليمة أو المحمية جيدًا أن تمنع الخلايا المتحورة من الانتشار.
وفي هذا السياق، يمكن أن تصبح تعزيز الخلايا الوقائية استراتيجية فعّالة للوقاية من السرطان قبل أن يظهر المرض.
كيف تؤثر الطفرات والجينات والبيئة على نمو السرطان؟
قام فريق الباحثين في معهد ويلكوم سانجر بدراسة طفرة شائعة في جين PIK3CA المعروف بتعزيز نمو الخلايا. لاحظوا أن الخلايا المتحورة تغير أيضها لتتفوق على جيرانها.
والمثير للدهشة، أن إعطاء دواء الميتفورمين للفئران حفز الخلايا السليمة على تعديل أيضها، ما مكّنها من المنافسة ومنع السيطرة للخلايا المتحورة. في المقابل، وجد الباحثون أن النظام الغذائي عالي الدهون يعزز بيئة ملائمة لنمو الخلايا السرطانية، ما يربط بين السمنة وخطر سرطان المريء.
ولا تقتصر الأسباب على الطفرات فقط، بل تلعب العوامل البيئية دورًا مهمًا، لا سيما عبر الالتهاب المزمن. التلوث، الارتجاع المعدي المتكرر، والعدوى المزمنة تُحفز الخلايا ما قبل السرطانية، وتوفر بيئة ملائمة لتكون الأورام.
وأظهرت دراسة نُشرت في Nature عام 2023 أن التعرض الطويل لتلوث الهواء يزيد من خطر سرطان الرئة لدى غير المدخنين، بينما يمكن للأشعة الشمسية وبعض البكتيريا المزمنة في الأمعاء أن تخلق تأثيرًا مشابهًا.
نهج وقائي جديد
يقترح العلماء استراتيجية وقائية جديدة، ترتكز على تعزيز الخلايا الوقائية والتحكم في الالتهابات، بدلًا من التركيز فقط على القضاء على الخلايا المتحورة. فقد أظهرت تجارب في الفئران أن حجب بروتينات مناعية مثل الإنترلوكين-1 يبطئ نمو الأورام الناتجة عن التلوث.
ويمكن لهذا النهج أن يوفر حماية قيمة للأشخاص المعرضين للخطر، مثل من لديهم طفرات وراثية، المدخنين السابقين، أو من تلقوا علاجًا من سرطان سابق.
ومع زيادة متوسط العمر وارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان، قد يمثل تعزيز الخلايا الوقائية والتحكم في الالتهابات نهجًا جديدًا في الوقاية من السرطان، محولًا مكافحة المرض من صراع للقضاء على الخلايا الضارة إلى استراتيجية للحفاظ على توازن الجسم وحيويته.