بينما يسعى الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع إلى توجيه رسائل تهدئة، تعتمد إسرائيل مقاربة تقوم على فرض حقائق ميدانية قبل تبلور ملامح السلطة الجديدة في دمشق.
أعادت عملية بيت جن اليوم، بما رافقها من اقتحام إسرائيلي وسقوط قتلى وجرحى واعتقالات، إحياء النقاش حول طبيعة الدور الذي تريد إسرائيل ترسيخه داخل سوريا في هذه المرحلة الحسّاسة، وأتت العملية لتكشف عن تحوّل أعمق في إستراتيجية تل أبيب، خصوصًا أنّه يحدث في لحظة تحاول فيها السلطة السورية الانتقالية، بقيادة أحمد الشرع، إرسال رسائل طمأنة باتجاه إسرائيل، من دون أن يبدو أنّ لهذه الرسائل أثرًا فعليًا على وتيرة العمليات.
ومع هذا الاختراق الجديد، يتعزّز الانطباع بأنّ إسرائيل تعمل وفق منطق مستقلّ عن الاعتبارات السياسية السورية، وأنّها ترى في الفراغ الذي أعقب سقوط نظام بشار الأسد فرصة لإعادة رسم قواعد الاشتباك والانتشار داخل سوريا. وهنا يبرز السؤال الأكثر إلحاحًا: ماذا تريد إسرائيل فعلًا من سوريا؟
مشهد العمليات بعد سقوط الأسد
منذ سقوط نظام بشّار الأسد في الثامن من كانون الأول/يناير 2024، دخلت إسرائيل طورًا مختلفًا من التدخّل العسكري داخل سوريا. فإطلاق عملية "سهم باشان" شكّل لحظة فاصلة، إذ توغّلت القوات الإسرائيلية للمرة الأولى منذ خمسة عقود داخل المنطقة العازلة وجزء من القنيطرة وجبل الشيخ، مستفيدة من انسحاب القوات الحكومية ومن الفوضى التي رافقت سقوط العاصمة.
وبعد الساعات الأولى، توالت الغارات الجوية بوتيرة غير مسبوقة، مستهدفة مستودعات صواريخ، منظومات دفاع جوي، مراكز أبحاث، مواقع بحرية، وقواعد عسكرية في دمشق وريفها ودرعا والسويداء واللاذقية وطرطوس وحمص وحماة. وعلى الأرض، توسّعت إسرائيل تدريجيًا نحو القرى الحدودية، وفرضت إخلاءات، ونفّذت عمليات تفتيش واسعة، وصادرت مخازن أسلحة، وأقامت نقاط مراقبة وتواجدًا دائمًا في مناطق متعدّدة.
ومع مرور الأسابيع، تحوّل التوغّل المحدود إلى حضور منهجي، وصولًا إلى تنفيذ إنزال جوي في يعفور على بُعد عشرة كيلومترات فقط من دمشق، قبل أن تواصل إسرائيل تقدّمها نحو ريف دمشق الغربي، ما جعل العمليات تبدو وكأنّها إعادة تشكيل فعلية لمشهد الحدود الجنوبية لسوريا.
القنيطرة ودرعا: حضور متصاعد
تركزت التوغلات الإسرائيلية على القرى المحاذية للجولان داخل محافظة القنيطرة، فشهدت قرى بريقة وبئر عجم ورويحينة وزبيدة الغربية والشرقية وعين الزيوان وأبو قبيس وأم باطنة وجباتا وجودًا عسكريًا مباشرًا أو مؤقتًا خلال عامي العامين الحالي والماضي.
وفي درعا، وصلت قوات إسرائيلية إلى حوض اليرموك، وسُجلت عملية إنزال قرب خربة صيصون في آذار/مارس 2025، إضافة إلى توغل دورية إسرائيلية حتى أطراف معرية غرب المحافظة في تشرين الثاني من العام نفسه. ورغم محدودية هذا التغلغل مقارنة بالقنيطرة، إلا أنّه يعكس استعداد تل أبيب لتوسيع نشاطها نحو العمق متى رأت الظروف مناسبة.
السويداء: من الاحتجاجات إلى الاستهداف العسكري
لا يمكن فصل التحركات الإسرائيلية الأخيرة عن الملف الدرزي، الذي عاد إلى الواجهة مع اندلاع اشتباكات بين مجموعات محلية وقوات تابعة للسلطة الحالية. وقد استغلّت إسرائيل هذا الوضع منذ بداياته، وظهرت في خطابها إشارات متكرّرة إلى "ضرورة حماية الدروز" أو "منع تهديدهم".
وتكرّس هذا النهج من خلال الضربات الإسرائيلية التي استهدفت أرتال عسكرية مرتبطة بالقوات المسؤولة عن الاشتباكات في السويداء، وصولًا إلى الغارات الكبيرة التي طالت مبنى وزارة الدفاع السورية ورئاسة الأركان ومواقع في محيط القصر الرئاسي في دمشق في تموز/يوليو الماضي، والتي صوّرتها إسرائيل على أنّها ردّ على "استهداف الدروز" وفق روايتها.
الهدم والتهجير والتغيير العمراني
لم تتوقف التحركات الإسرائيلية عند التوغلات والغارات، بل شملت عمليات هدم وتهجير وتغيير عمراني في عدة قرى داخل المنطقة العازلة وخارجها. ففي قرية الحميدية، الواقعة ضمن منطقة الأمم المتحدة منزوعة السلاح، هدمت القوات الإسرائيلية في 16 حزيران/يونيو ما لا يقل عن 12 مبنى، بعد أن كانت قد طردت السكان منها في كانون الأول/يناير.
وفي جباتا الخشب، أنشأت إسرائيل منشأة عسكرية جديدة وبدأت بتجريف مساحات واسعة من الأراضي، شملت محمية غابات يزيد عمرها على قرن كامل. ومنع السكان من الوصول إلى أراضيهم الزراعية، في واحدة من أكبر عمليات اقتطاع الأراضي منذ السبعينيات.
المنطقة العازلة الجديدة: نهاية خطوط 1974
تتعامل إسرائيل اليوم مع اتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974 باعتباره اتفاقًا انتهى فعليًا مع سقوط النظام السابق. فمع انسحاب القوات السورية من مواقع الجولان في ليلة سقوط دمشق، اعتبرت تل أبيب أنّ الفرصة سانحة لإعادة رسم الحدود. وبالفعل، أصبح نطاق تحرّكها يمتدّ نحو خمسة عشر كيلومترًا داخل الأراضي السورية، مع مجال نفوذ استخباراتي أوسع يصل إلى ستين كيلومترًا.
هذا التغيّر الجغرافي ترافق مع فكرة أكبر: ضرورة أن تربط إسرائيل أمنها بعمق جغرافي يتجاوز خطوط ما بعد حرب تشرين. زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو للجنوب السوري في التاسع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر جاءت لتثبّت هذا التوجّه، إذ أكّد خلالها أنّ خطوط 1974 انتهت، وأنّ إسرائيل ستبقى داخل سوريا "إلى حين التوصّل إلى ترتيبات جديدة".
بهذا المعنى، لا تتعامل إسرائيل مع توغّلاتها باعتبارها عمليات تكتيكية، بل مرحلة تأسيسية لما تصفه بحدود الأمن الجديدة، الممتدة فعليًا من جنوب دمشق حتى مشارف الجولان.
إسرائيل وتركيا: صراع نفوذ على الأرض السورية
في موازاة التحركات العسكرية الإسرائيلية، يبرز بوضوح التنافس بين إسرائيل وتركيا على هوية سوريا الجديدة. فتركيا التي كرّست نفوذها في الشمال السوري تسعى إلى تثبيت حضور سياسي وأمني في أي تسوية مقبلة، بينما ترى إسرائيل أنّ غيابها عن الجنوب سيمنح أنقرة مجالًا أوسع للتمدّد.
ولذلك، تتحرّك إسرائيل بسرعة لفرض وجود مقابل في الجنوب والقنيطرة وامتداد جبل الشيخ، بهدف منع أي فراغ قد تملأه تركيا أو أي قوة أخرى تعتبرها تل أبيب تهديدًا مباشرًا. هذه الثنائية التركية – الإسرائيلية تشكّل خلفية لا يمكن تجاهلها عند قراءة موقع تل أبيب في الجنوب السوري بعد سقوط النظام.
ذاكرة الحرب السورية: تجربة "الجار الصالح"
لفهم الأداء الإسرائيلي في سوريا اليوم، لا بدّ من العودة إلى تجربة "الجار الصالح" التي نفّذتها إسرائيل خلال الحرب الأهلية. ففي تلك المرحلة، فتحت تل أبيب مستشفى ميدانيًا، وقدّمت دعمًا طبيًا ولوجستيًا لفصائل معارضة كانت تسيطر على القرى القريبة من الجولان، وتعاملت مع الجنوب السوري كامتداد طبيعي لأمنها المباشر.
هذه التجربة صنعت لدى إسرائيل قناعة بأنّ الجنوب ليس مجرد خط حدودي، بل مجال تأثير يجب أن يبقى خاضعًا للمراقبة والسيطرة كلما أمكن. وسقوط النظام السابق منح تل أبيب الفرصة لتوسيع هذه المقاربة وتعميقها.
ماذا تريد إسرائيل من سوريا؟
بعد عملية بيت جن، وبعد أشهر طويلة من التحركات العسكرية، يبدو أن إسرائيل لا تعمل فقط على "منع تهديدات محتملة"، بل على إعادة صياغة علاقتها بسوريا من الأساس.
تريد إسرائيل قبل كل شيء إنشاء منطقة عازلة فعلية تمتدّ من جنوب دمشق إلى الجولان، وتمنع خلالها أي طرف سوري أو حليف سوري من الوصول إلى خطوط الحدود. كما تريد أن تكون لاعبًا رئيسيًا في مستقبل الجنوب السوري، بحيث لا تتمّ أي تسوية سياسية من دون أخذ مصالحها الأمنية في الاعتبار. وتسعى في الوقت نفسه إلى تثبيت خارطة نفوذ موازية لتلك التي تبنيها تركيا في الشمال، لضمان موقع متقدّم داخل سوريا الجديدة.
وبينما يحاول الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع تقديم رسائل تهدئة، تعتمد إسرائيل مقاربة تقوم على "فرض الوقائع" قبل اكتمال ملامح السلطة الجديدة في دمشق. وهكذا، يصبح السؤال اليوم ليس فقط ماذا تفعل إسرائيل داخل سوريا، بل ما الشكل النهائي الذي تريد فرضه على الجغرافيا السياسية والأمنية السورية في السنوات المقبلة؟.