حاول الملك حسين البحث عن مخارج دبلوماسية. وفتح قنوات دبلوماسية مع إسرائيل فالتقى سراً بمسؤولين إسرائيليين آملاً استعادة ما خسره من أراضٍ بعد حرب حزيران/يونيو، وإرساء سلام يُنهي حالة الحرب.
خمسة وخمسون عاماً مرّت على أيلول الأسود، ذلك الشهر الذي كاد يُنهي وجود المملكة الأردنية الهاشمية كدولة ذات سيادة، ويُطيح بالملك حسين بن طلال، الذي كان حينها في الـ33 من عمره. لم يكن الصراع مجرد مواجهة بين جيش نظامي وفصائل مسلحة، بل كان امتحاناً وجودياً شمل تهديدات داخلية وتدخلات خارجية.
وأسفرت الأحداث عن سقوط آلاف القتلى مدنيين وعسكريين، أردنيين وفلسطينيين واستمرت المواجهات حتى يوليو/تموز 1971.
أيلول الأسود لم يكن حدثاً مفاجئاً
لم يبدأ أيلول الأسود في سبتمبر 1970، بل شكل عبر سلسلة حوادث مترابطة بدأت بعد نكسة يونيو/حزيران 1967، حين خسر الأردن الضفة الغربية والقدس الشرقية. ودفعت تلك الهزيمة نحو 300 ألف لاجئ فلسطيني إلى شرق نهر الأردن، حيث انتشرت مخيمات حول عمان وإربد والزرقاء.
وداخل هذه المخيمات، نمت فصائل فلسطينية مسلحة أبرزها "فتح" و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" لتصبح دولة داخل الدولة، تفرض قوانينها، وتتحدى سلطة الحكومة، وتُشن عمليات عسكرية ضد إسرائيل انطلاقا من الأراضي الأردنية.
لكن التهديد لم يكن داخلياً فقط. ففي الوقت نفسه، كان الجيش العراقي يحتل أجزاءً واسعة من شرق الأردن بموافقة رسمية عمّان آنذاك ، لكن ولاءه تحوّل تدريجياً لدعم الفصائل الفلسطينية. وصارت عمان مسرحاً لمحاولات اغتيال متعددة ضد الملك، بينما هددت الفصائل باعتقال مسؤولين أمريكيين كرهائن.
بين السلام والعزلة… محاولات الملك اليائسة
في هذا الجو المشحون، حاول الملك حسين البحث عن مخرج دبلوماسي. وفتح قنوات دبلوماسية مع تل أبيب فالتقى سراً بمسؤولين إسرائيليين على أمل أن يستعيد ما خسره من أراضٍ بعد حرب حزيران/يونيو، وإرساء سلام يُنهي حالة الحرب.
وفي واحدة من أكثر هذه المحاولات حساسية، التقى سرّاً برئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير وكبار مساعديها على جزيرة نائية في خليج العقبة، في عشاء وُصف بأنه "لطيف"... لكنه لم يُسفر عن شيء. فلم تُبدِ إسرائيل أي استعداد لإعادة الضفة الغربية والقدس. بل طرح مسؤولوها اقتراحاً لضم غور الأردن الأمر الذي رفضه الملك بحزم.
وفي واشنطن، لم تكن الآمال بأفضل حال. فعلى الرغم من لقاء الملك حسين المباشر مع الرئيس ريتشارد نيكسون في أبريل 1969، وتقديمه خطة روجرز للسلام والمؤلفة من ست نقاط — أيدتها القاهرة ووافق عليها الرئيس المصري جمال عبد الناصر — لكن الإدارة الأمريكية لم تُحرّك ساكناً. فالرئيس نيكسون، الذي فضّل تفويض الملف لوزير خارجيته ويليام روجرز، لم يُبدِ أي زخم دبلوماسي لإنقاذ المبادرة. وحين رفضت إسرائيل الخطة، لم يُبدِ البيت الأبيض أي رد فعل… ولم يتم اتخاذ أي إجراء.
ومع تصاعد التوتر، وصلت عزلة الملك إلى ذروتها في أبريل 1970، حين احتشد متظاهرون فلسطينيون أمام سفارة واشنطن في عمان، وأضرموا النار في سياراتها، وانتزعوا العلم الأمريكي من ساريته. ولم تُرسل الحكومة الأردنية قوات أو مدرعات لحماية المبنى. وعندما احتج السفير الأمريكي، هاريسون سيمز الذي يقيم في عمان منذ 1967 لم يُقدّم له أي اعتذار رسمي. بل جاء الرد أقسى: أُعلن أنه "شخص غير مرغوب فيه"، وأُمر بمغادرة البلاد فوراً في خطوة لم يسبق لها مثيل تجاه دولة تُضخّ ملايين الدولارات مساعدات إلى الأردن.
وفي هذا المنعطف، بدأ الملك يفقد ثقته بالقنوات الدبلوماسية التقليدية. ولجأ بدلاً منها إلى قنوات بديلة، أبرزها الاتصال المباشر مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وجهاز المخابرات البريطاني (MI6)، الذي كان يمتلك بفضل ترتيبات سابقة خط اتصال آمناً ومباشرًا مع القصر الملكي.
إعادة بناء الجيش… والاستعداد للمواجهة
وفي الوقت الذي كان فيه الملك حسين يخوض مفاوضات متعثرة مع الفدائيين، كان جيشه يُعاد تشكيله بصمت بعيداً عن الأضواء، وتحت غطاء الدعم الغربي. فبين عامي 1967 و1970، تدفقت أسلحة أمريكية وبريطانية، وتحول الجيش الأردني من قوة منهكة بعد هزيمة حزيران إلى جيش منظم يضم أربع فرق: مشاة ومدرعة وميكانيكية. واستند على دعم العشائر البدوية الأكثر ولاءا للملك، والأشد غضباً من ما اعتبروها "غطرسة الفصائل الفلسطينية" التي باتت تتحدى سلطة الدولة.
ولم تقتصر عملية إعادة التأهيل على القوات البرية فقط. فقد أُعيد بناء سلاح الجو الملكي من الصفر، بعد أن دمّرت إسرائيل بالكامل في حرب 1967. وساهم في هذه العملية فريق من الخبراء الباكستانيين — بينهم ضابط شاب يُدعى محمد ضياء الحق، الذي سيصبح لاحقاً رئيساً لباكستان — في إعادة هيكلة الجيش، ورفع كفاءة تدريبه، وتجهيزه للمواجهة المقبلة. وكانت باكستان — إحدى دولتين فقط اعترفتا رسمياً بضم الضفة الغربية للأردن — حليفاً استراتيجياً لا يُستهان به، خاصة مع زواج ولي العهد حسن من الأميرة الباكستانية سروث.
وفي مفارقة تاريخية لافتة، تحوّل الخصم القديم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي اتُهم أكثر من مرة بمحاولة الإطاحة بالملك في الخمسينيات والستينيات إلى حليف حاسم. فقد أعجب عبد الناصر بقرار الحسين بن طلال خوض حرب 1967 إلى جانب مصر، ورأى في بقاء الأردن تحت حكمه ضمانةً ضد تحكّم أشخاص مثل ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير، أو وكلاء خارجيين مثل العراق وسوريا، في مصير المملكة.
الملك يتردد
وخلال الـ18 شهراً التي سبقت سبتمبر 1970، اختار الملك حسين خيار التريث ودخل في جولات مفاوضات لا تنتهي مع ياسر عرفات، سعياً لتسوية سياسية تجنّب البلاد الانزلاق إلى حرب أهلية. لكن المسلحين لا سيما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش لم يلتزموا بالتهدئة، بل صاعدوا من عملياتهم، وصولاً إلى استهداف رأس الدولة نفسه.
ففي 9 يونيو 1970، تعرض موكب الملك لهجوم مسلح — في محاولة اغتيال كادت تُغيّر مجرى التاريخ. وردّ الجيش فوراً بقصف مخيمات اللاجئين في محيط عمان، في عملية انتقامية أسفرت عن سقوط قتلى مدنيين إلى جانب المسلحين. وبعد أسابيع، في أواخر يونيو، نفّذت الجبهة الشعبية خطوة تصعيدية جديدة: احتجاز 68 أجنبياً كرهائن في فندقين بالعاصمة، وربط إطلاق سراحهم بإقالة قائدَين عسكريين مقرّبين من الملك — عمه الشريف ناصر وابن عمه الشريف زيد. واضطر الملك حسين إلى الاستجابة لمطالبهم… فخسر بذلك دعم جزء من الجيش، وأضعف موقفه في اللحظة التي كان أحوج فيها إلى وحدة المؤسسة العسكرية.
ثم جاءت الضربة الثانية: في 1 سبتمبر، وبينما كان الملك في طريقه إلى المطار لوداع ابنته الأميرة علياء، تعرض لمحاولة اغتيال ثانية. وعندها انفجر الوضع. تصاعد القتال في شوارع العاصمة، وخرجت المواجهة عن السيطرة. وعلناً، هدد العراق الذي كان يُدار فعلياً من قبل صدام حسين بالتدخل العسكري لدعم المسلحين الفلسطينين، ما حوّل الأزمة من صراع داخلي إلى تهديد وجودي شامل.
الذروة: اختطاف الطائرات… ودخول الجيش
وفي السادس من سبتمبر 1970، نفّذت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عملاً صادماً هزّ العالم: حيث قامت باختطاف أربع طائرات ركاب في وقت واحد. ثلاث منها هُبط بها في مطار صحراوي ناءٍ قرب الزرقاء عُرف باسم "ميدان داوسون" حيث أُخليت الطائرات من ركابها، ثم فُجّرت واحدة تلو الأخرى أمام عدسات الكاميرات، في مشهد مسرحي أُعدّ له بدقة. أما الطائرة الرابعة، فقد هبطت في القاهرة، وفُجّرت هناك أيضاً. وبقي 54 رهينة بينهم أمريكيون وأوروبيون رهائن في أيدي الخاطفين، الذين رفعوا سقف مطالبهم إلى حد اشتراط الإفراج عن معتقلين فلسطينيين في سجون أوروبية وإسرائيلية.
وأمام هذا التصعيد، تحركت واشنطن لكن بحذر. فأمر الرئيس ريتشارد نيكسون بنقل حاملتي الطائرات "إندبندنس" و"ساراتوجا" إلى شرق البحر المتوسط، في عرض للقوة لم يُترجم إلى أي تدخل عسكري مباشر. وبينما كانت الكاميرات تُسلّط على الطائرات المحترقة، كانت عمان تقترب من نقطة اللاعودة.
ففي 15 سبتمبر، استولى الفدائيون على مدينة إربد معقلهم الأكبر في الشمال وأعلنوا سيطرتهم. ولم يعد أمام الملك من خيار خيار. فشكّل حكومة تحت بند الأحكام العرفية، وأعاد تعيين القائدين اللذين أقالهما تحت ضغط مسألة الرهائن: الشريف ناصر والشريف زيد. ثم، في 17 سبتمبر بعد أن أخّر الهجوم بيوم واحد بناءً على نصيحة عرّافة زوجة أخيه في لندن أصدر أوامره للجيش بالهجوم. وهكذا، بدأ اللواء المدرّع الستون أولى عملياته باقتحام مخيمات اللاجئين في عمان، حيث تمركزت مقرات المسلحين الفلسطينين… لتبدأ معركة الشوارع التي ستُعرف لاحقاً بـ"أيلول الأسود".
الخدعة الكبرى: كيف شُلّ الجيش العراقي
لم يكن الفدائيون رغم عملياتهم وتمددهم هم الخطرَ الأكبر الذي يهدد عرش الملك. بل كان الجيش العراقي، المتمركز في شرق الأردن بقوة تضم 20 ألف جندي و200 دبابة، مدعوماً بسلاح جوّ يفوق قدرات الأردن الجوية. وكان هذا الجيش الذي يُدار فعلياً من قبل صدام حسين، رئيس حزب البعث وقتها الذي قطع وعداً صريحاً لياسر عرفات: الدعم الكامل للإطاحة بالملك حسين.
ولكن في الظل، كانت الاستخبارات الأردنية تعدّ لخدعة كبرى. على رأسها كان "أبو حسن" العميل العراقي المُنشق، والذي هرب سابقاً بطائرة ميغ إلى الأردن، وأصبح صديقاً مقرباً لصدام حسين.
وتحت قيادته، جرى تزوير وثائق تُظهر خطة أمريكية سرية لشن ضربات جوية خاطفة ضد القوات العراقية في الأردن وداخل العراق. ثم نُقلت الوثائق المزيفة عبر ملحق عسكري أوروبي مُجنّد في عمان إلى السفارة العراقية في تركيا.
وعندها، جاءت اللحظة الحاسمة: اتصل قائد الجيش الأردني، زيد بن شاكر، بالملحق العسكري العراقي، وأبلغه بثقة المُطّلع على الأمور أن الأردنيين على علم تام بتعاون العراقيين مع الفصائل الفلسطينية، وأن لديهم تفاصيل دقيقة عن مواقعهم وأنهم على استعداد للتحرك مع الأمريكيين لتدميرهم. لم يكن لدى واشنطن أي علم بهذه "الخطة". لكن التهديد أصاب الهدف. فجمّد العراقيون قواتهم. وبقيت دباباتهم في مواقعها دون أن تتدخل. وهكذا، وبخدعة وحيدة، تم تحييد أخطر تهديد عسكري واجهه الملك خلال الأزمة.
التدخل السوري… والانسحاب المفاجئ
في 18 سبتمبر، عبرت دبابات سورية الحدود من الشمال، تحمل على أبراجها شعارات "جيش التحرير الفلسطيني" في محاولة لإضفاء غطاء فلسطيني على التدخل العسكري. لكنها لم تُكمل طريقها طويلاً. فقد تصدّى لها اللواء المدرّع الأربعون الأردني في مواجهات ميدانية حاسمة. وتصاعد التوتر إلى مستويات غير مسبوقة، فدخل الأمريكيون والإسرائيليون في مشاورات محمومة: هل يتدخّلون؟ وكيف؟
لكن تل أبيب ترددت. فبعضُ قادتها وعلى رأسهم وزير الخارجية حينها أبا إيبان والجنرال إيزر فايتسمان لم يروا في سقوط الملك كارثة استراتيجية. بل ذهب إيبان إلى حد القول للسفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة: "العالم لن ينتهي إذا غادر الملك حسين المشهد"، مُلمّحاً إلى أن هيمنة الفلسطينيين على الأردن قد تُسهّل لاحقاً التوصل إلى تسوية معهم.
وحين طلب الملك مساعدة عسكرية، وافق الإسرائيليون على تقديم غطاء جوي استطلاعي… لكنه رفض تماماً دخول قوات برية إسرائيلية إلى أراضيه، خشية أن تبقى البلاد تحت حكم قوات تل أبيب إلى الأبد.
وفي لحظة حرجة، أرسل الملك ضابطه الباكستاني الموثوق، محمّد ضياء الحق، لتقييم الوضع على الأرض. وبعد جولة ميدانية، عاد بتقرير مختصر لكنه حاسم: "الوضع خطير… لكنه ليس ميئوساً منه". وبناءً عليه، واصل الجيش الأردني صموده.
ثم جاءت الانعطافة الحاسمة في 22 سبتمبر حيث قام وزير الدفاع السوري حينها حافظ الأسد الذي لم يكن بعد رئيساً للبلاد باتخاذ قرار غير متوقع، حيث منع الطيران السوري من التدخل، وترك الدبابات التي أرسلها صلاح جديد غريمُه داخل حزب البعث، تواجه مصيرها وحدها في سهول شمال الأردن. لم يكن هدف الأسد إنقاذ الملك أو دعم الفلسطينيين بل إضعاف خصمه السياسي. ونجحت المناورة. فبعد أسابيع، أطاح الأسد بجديد، وسيطر تماماً على مفاصل السلطة في دمشق.
وقف إطلاق النار ووفاة عبد الناصر
في 26 سبتمبر، وجّه الرئيس المصري جمال عبد الناصر دعوة عاجلة إلى الملك حسين وياسر عرفات للقاء في القاهرة. وبعد مفاوضات مكثفة تحت ضغط الوقت والدماء التي كانت تسيل، وقّع الطرفان على اتفاق لوقف إطلاق النار في 27 سبتمبر. لكن لم يُكتب لعبد الناصر أن يرى تنفيذه. ففي اليوم التالي، 28 سبتمبر، رحل عن هذه الدنيا إثر نوبة قلبية أصابته ليُطوى معه فصل كامل من فصول الوساطة العربية، ويفقد الأردن حليفاً استراتيجياً في أخطر لحظاته.
ومع ذلك، لم يضع وقف إطلاق النار حداً فورياً للقتال. ففي الشمال، ظلت المواجهات مستمرة خاصة في إربد وجرش حيث تمركزت آخر معاقل الفدائيين الفلسطينين.
واستمر الجيش الأردني في عملياته حتى يوليو/تموز 1971، حين سيطر نهائياً على تلك المواقع، وأجلى ما تبقى من المسلحين إلى لبنان، منهياً بذلك حقبة "دولة داخل الدولة"، وأعاد للمملكة سيطرتها الكاملة على أراضيها.