أثارت قضية الرقيب محمد الأطرش تساؤلات عميقة حول طبيعة العلاقة المعقدة بين إسرائيل والمجتمع البدوي في فلسطين التاريخية. فمن هم البدو، وماذا نعرف عن علاقتهم بالدولة العبرية؟
كشفت إسرائيل اليوم الخميس عن هوية الرهينتين اللتين تسلمت جثتيهما يوم الأربعاء، وهما إنبار هايمان، رسامة الغرافيتي التي قُتلت خلال هجوم 7 أكتوبر، والرقيب محمد الأطرش، البدوي الذي كان يخدم في الجيش الإسرائيلي.
وجاء هذا الإعلان بعد يوم من الجدل الذي أثاره الجيش عندما نفى أن تكون إحدى الجثث الأربع التي تسلمها من حماس ليل الثلاثاء تعود لجندي إسرائيلي، خلافًا لما ادعته الحركة. وأشارت تقارير إلى أن الجثة الرابعة تعود لرجل فلسطيني من غزة يُشتبه في تعاونه مع إسرائيل.
وردًا على هذه التطورات، اتهمت تل أبيب حماس بالتعامل بخداع في عملية تسليم الجثث. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: "حماس أفرجت عن جثة ليست لجندي قُتل"، مؤكدًا أن "حماس يجب أن تعيد جميع الرهائن القتلى، ولن نتنازل ولن نوفر أي جهد حتى يتم إعادة جميع القتلى".
لكن صباح الخميس، أكدت القوات الإسرائيلية أن محمد الأطرش، الذي دار الجدل حول جثته، كان ضابطًا بدويًا في الجيش الإسرائيلي، وأن حماس سلمته كبديل عن جثة أحد الرهائن الإسرائيليين.
وبحسب موقع "i24" الإسرائيلي، التحق الأطرش بالجيش الإسرائيلي حيث خدم كمتعقّب في فرقة غزة الشمالية. وقُتل في صباح يوم 7 أكتوبر ثم نُقلت جثته إلى غزة، وأُعلن عن وفاته رسميًا في يونيو 2024، وهو أب لثلاثة عشر طفلاً.
مع ذلك، أثارت قضية الرقيب محمد الأطرش تساؤلات عميقة حول طبيعة العلاقة المعقدة بين المجتمع البدوي في فلسطين التاريخية والدولة العبرية. فمن هم البدو، وماذا نعرف عن علاقتهم بإسرائيل؟
الواقع الديموغرافي والجغرافي للبدو
يُشكل البدو في إسرائيل أقلية، إذ يمثلون حوالي 3% من إجمالي سكان الدولة العبرية، ونحو 10% من إجمالي السكان العرب فيها.
وتتركز الغالبية العظمى منهم في صحراء النقب، التي تغطي حوالي 60% من مساحة إسرائيل، ويحدها من الشرق وادي عربة ومن الغرب شبه جزيرة سيناء.
وتُعد النقب منطقة ثرية من حيث الموارد، وتتميز بتنوع جغرافي يجمع بين السلاسل الجبلية والوديان العميقة والسهول الصحراوية الممتدة والهضاب المنحدرة.
وتشمل المنطقة عدة مدن وبلدات رئيسية، تأتي في مقدمتها بئر السبع كأكبر مدن المنطقة، تليها رهط التي تحتل المرتبة الثانية من حيث الحجم السكاني. كما تضم المنطقة عددًا من البلدات المهمة مثل عرعرة، وتل السبع، وكسيفة، وحورة، وشقيب السلام، التي تشكل مراكز استقرار للسكان البدو.
الخلفية التاريخية
يُصنف البدو في إسرائيل ضمن فئة "عرب 48"، وهم الفلسطينيون الذين بقوا في أراضيهم بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948.
وقبل النكبة، كان هناك حوالي 91 ألف بدوي على الأقل يسكنون النقب، ينحدر أغلبهم من منطقة الحجاز. وتشير تقارير إلى أنهم فروا بشكل جماعي، بينما تذكر أخرى أنهم قاتلوا إلى جانب القوات المصرية والسعودية ضد إسرائيل في البداية، وأحيانًا بشكل مستقل، وقد تعرضوا لتهجير قسري انتهى بوجود معظمهم في دول الجوار كالأردن ومصر، ولم يبقَ في صحراء النقب سوى نحو 11 ألف بدوي فقط.
وبحسب تقرير "بدو النقب" رقم 81 من مجموعة حقوق الأقليات (MRG)، دفعت الحكومة الإسرائيلية في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1949 حوالي 500 عائلة بدوية عبر الحدود إلى الضفة الغربية جنوب الخليل.
ويشير التقرير إلى أنه نظرًا لأن بدو النقب لم يحصلوا على بطاقات هوية إسرائيلية حتى عام 1952، كان من السهل جدًا تهجيرهم قبل ذلك الوقت. وحتى عام 1953، وثقت الأمم المتحدة تهجير 7,000 بدوي.
ويوضح التقرير أنه بعد قيام دولة إسرائيل، تم حصر البدو المتبقين في مناطق عسكرية مغلقة متعددة. ففي الجليل، كانت هناك مناطق عسكرية صغيرة تحاصر القرى العربية، وفي النقب تم حصر كل السكان العرب، أي مجتمع البدو، في "محميات" شرق بئر السبع.
التطورات السياسية والاجتماعية
في عام 1953، منحت إسرائيل البدو الجنسية، ووفرت الحكومة الإسرائيلية التعليم والرعاية الطبية والخدمات الاجتماعية، إلا أن التعامل مع مجتمعهم ظل معقدًا بسبب تضاعفه السريع.
وأطلقت الحكومة الإسرائيلية خطة في منتصف الستينيات تحت شعار "توطين البدو الرحل"، هدفت إلى حصر البدو في 7 مدن في شمال النقب وتخفيف انتشارهم في الأراضي التي تعتبرها إسرائيل غير قانونية.
ويشير التقرير إلى أن هذه الخطة ركزت على تقديم نفسها كمحاولة "خيرية" لمساعدة "مجتمع متخلف" على دخول القرن العشرين، لكنها تزامنت مع هدف السلطات في تقليص المساحات التي يشغلها البدو، التي تراها إسرائيل عقبة أمام تطوير مشاريع سكنية يهودية جديدة، ومستوطنات.
ويقول مراقبون إن الانتقال إلى القرى المخططة كان تجربة مؤلمة للعائلات البدوية، وخصوصًا للجيل الأكبر سنًا، إذ اضطروا للعيش بالقرب من أسر أخرى ومن قبائل مختلفة، وهو ما مثّل تحولًا ثقافيًا صعبًا بعد أن اعتاد كثير منهم العيش في عزلة على مسافات واسعة.
الواقع الاجتماعي والاقتصادي الراهن
يتمتع البدو بحقوق المواطنة الكاملة في النظام الاجتماعي الإسرائيلي. ففي مدينة رهط - أكبر المدن البدوية - يحصل 79% من السكان على مدفوعات الضمان الاجتماعي، معظمها إعانات بطالة.
وتشجع سياسات الدعم الاجتماعي الإسرائيلية العائلات الكبيرة، حيث تقدم منحًا للأطفال، وهي سياسة تتناسب مع التركيبة السكانية الشابة في رهط، حيث يشكل الأطفال دون 18 سنة ما يقارب 65% من السكان.
مع ذلك، تُدار المجالس المحلية في القرى البدوية من قبل مسؤولين يهود ومشايخ بدو مُعيّنين من الحكومة، وغالبًا ما تُؤجَّل الانتخابات لسنوات طويلة. فعلى سبيل المثال، لم تُجرَ انتخابات في تل السبع بعد مرور 20 عامًا على تأسيسها، في حين أجرت رهط أول انتخابات بعد 17 عامًا.
وتفيد تقارير أن معدل البطالة بين البدو في النقب أعلى بكثير من المعدل العام في إسرائيل، وحتى من المعدل في بلدة ديمونا اليهودية في النقب، التي تُعد بلدة تطوير فقيرة وفقًا للمعايير الإسرائيلية.
الواقع التعليمي
يظهر مستوى التعليم بين البدو في النقب انخفاضًا حادًا جدًا مقارنةً بغيرهم من السكان في إسرائيل. فعلى الرغم من وجود مدارس ابتدائية في معظم القرى المخططة، فإن نسبة الالتحاق بالتعليم الثانوي تبقى منخفضة للغاية، خصوصًا بين الفتيات.
وفقًا لبيانات من التعداد العام لعام 1983:
- 55% من البدو في النقب لم يلتحقوا بأي مدرسة.
- 38% فقط حصلوا على تعليم ابتدائي.
- 6% أنهوا المرحلة الثانوية.
- أقل من 1% حصلوا على تعليم جامعي.
بالمقارنة، فإن النسبة لدى اليهود الإسرائيليين الذين لم يلتحقوا بأي مدرسة لا تتعدى 1% فقط.
كما أن معدل الأمية في أوساط البدو يُعد من أعلى المعدلات في إسرائيل، إذ تشير الدراسات إلى أن نحو 80% من النساء البدويات فوق سن 35 عامًا أميات.
الولاء لإسرائيل
فيما يتعلق بالنظرة لإسرائيل، يقول عالم الأنثروبولوجيا يتسحاق بيلي إن "البدو لم يتبنّوا يومًا مشاعر قومية عربية معادية لإسرائيل"، كما يؤكد إيلان ساغي، رئيس المجلس المحلي لثلاث بلدات بدوية، أن البدو: "هم لا يرون أنفسهم فعلًا كفلسطينيين، بل كبدو... وهذا هو الفارق بين البدو والعرب في الشمال."
الخدمة العسكرية
على الرغم من إعفاء البدو من الخدمة العسكرية الإلزامية، تطوع آلاف منهم للخدمة في الجيش الإسرائيلي، ففي عام 1985، بادر علي خليف من قبيلة خليف بإنشاء وحدة البدو داخل إسرائيل، التي عُرفت لاحقًا بـ"كتيبة المسلمين الإسرائيلية"، وتأسست رسميًا سنة 1987.
ويقول موقع "واللا" العبري إن الجيش الإسرائيلي يضم حاليًا 1514 جنديًا من المجتمع البدوي، منهم 84 ضابطًا، يتدربون في قاعدة لواء جفعاتي في كتسيعوت. ويتولون مهام مراقبة الحدود مع مصر لمنع تهريب السلاح، بالإضافة إلى عمليات حربية على محور فيلادلفيا جنوب غزة.
وقد خاضت كتيبة البدو معارك عديدة ضد الفصائل الفلسطينية، كان أبرزها عام 2004 عندما قُتل 5 جنود من كتيبتهم قرب رفح.
وفي 7 أكتوبر الماضي، شاركت الكتيبة في صد هجوم حماس، وحصلت على تقدير رسمي من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي زار دورية الصحراء البدوية "585" التابعة للواء الجنوبي في 13 نوفمبر الماضي.
وقال نتنياهو خلال الزيارة: "أنا هنا بكتيبة الدوريات البدوية مع القائد نادر والمحاربين الشجعان، القادة، اليهود والبدو، يقفون جنبًا إلى جنب. لقد قاتلوا بشجاعة، وهم الآن يقاتلون بشجاعة. يحمون بلدنا بطريقة رائعة وشراكة مذهلة".