يتناول الخبير الاقتصادي والمؤرخ البارز، وأحد الفائزين الثلاثة بجائزة نوبل في الاقتصاد هذا العام، آفاق الذكاء الاصطناعي، والاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة وأوروبا، وقضايا المهاجرين، في حديثه إلى "يورونيوز".
قليلون هم الاقتصاديون الذين نالوا جائزة نوبل في الاقتصاد وحققوا القبول العالمي الواسع الذي حظي به الفائزون هذا العام.
كُرّم الاقتصاديون الثلاثة البارزون، جويل موكير وفيليب أيون وبيتر هاويت، تقديرًا لعملهم الذي يبرز أهمية التقدّم التكنولوجي في دفع الازدهار الاقتصادي، وهو موضوع يكتسب أهمية متزايدة اليوم مع التطور السريع للذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية.
ومن بين الفائزين الثلاثة، برز جويل موكير، لما يمتاز به عمله من اتساع وتنوع في المقاربة.
يُعدّ موكير من أبرز المؤرخين الاقتصاديين في عصرنا، وربما أبرز الباحثين في دراسة العلاقة بين المعرفة والابتكار والتقدّم الاقتصادي. يشغل منصب أستاذ في جامعة نورث ويسترن وباحث في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية (NBER)، وقد أمضى أكثر من أربعة عقود في بحث أسباب دخول بعض المجتمعات في فترات من النمو المتسارع، مقابل بقاء مجتمعات أخرى في حالة ركود.
في هذه المقابلة التي تشرّفنا بإجرائها معه، ناقشنا معه مسألة تنامي تقنيات الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن لبلدان مثل اليونان إعادة ابتكار نفسها لقيادة الطريق في عصر التقنيات الجديدة.
لماذا لا يجب أن نخاف من الذكاء الاصطناعي؟
قال موكير مازحًا خلال الفعالية التي أقامتها جامعة نورث ويسترن على شرفه، بعد فترة وجيزة من إعلان لجنة نوبل: "لا يمكن أن ينتهي يومي من دون سؤال عن الذكاء الاصطناعي".
ومع ذلك، فهو لا يُعد من الأشخاص الذين يبدون خشية من النمو السريع لهذه التقنية، بل يرى أنها ستُسهم في دفع البشرية إلى الأمام، بفضل قدرتها على تقديم خدمات شخصية مثل العلاج الطبي المخصص والتعليم الموجَّه، إضافة إلى دورها المحتمل في مواجهة تغيّر المناخ عبر تمكين الدول الأكثر فقرًا من الموارد التي تحتاج إليها.
وطرحنا عليه السؤال التالي: "على عكس الطفرات التكنولوجية السابقة التي بقيت تحت سيطرة الإنسان، يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على العمل بشكل شبه مستقل، وربما، مستقبلاً، بشكل مستقل تمامًا. هل يمثّل ذلك نقطة تحوّل؟ وما الذي يترتب على ذلك؟".
**فأجاب موكير: "**لا أعتقد أن الذكاء الاصطناعي سيعمل بشكل مستقل على الإطلاق. وكما تعلم، فإننا نصنع الآلات منذ القدم، وكانت دائمًا في خدمتنا. الآلات لا تفعل ما تريده هي، بل ما نبرمجها عليه. إنها بلا وعي، فالآلة لا تعرف أنها آلة. أنت وأنا نعرف أننا بشر، أما الآلة فلا تعرف ذلك.
نحن نقصد بالذكاء الاصطناعي، في جوهره، القدرة على معالجة المعلومات، لكن الوعي بالذات ليس مسألة ذكاء، بل أمر مختلف تمامًا، ولا توجد وسيلة لزرعه داخل الآلة. لذلك، لا أشعر بقلق حقيقي من فكرة أن تعمل الآلات بشكل مستقل.
ما أتوقع حدوثه، وهو أمر بالغ الأهمية وأود الإشارة إليه، هو الآتي: في الماضي، كان الأغنياء والأقوياء، وهم أقلية صغيرة، يمتلكون دائمًا ميزة واحدة أساسية، وهي وجود خدم يعملون لديهم.
أما اليوم، فقليلون هم من يملكون خدمًا شخصيين، أليس كذلك؟ ما سيتيحه الذكاء الاصطناعي والروبوتات هو منح كل فرد نوعًا من الآلات التي ستؤدي دور الخادم، كـ"ليبوريلو" خاص بكل شخص. وكما تعلم، سيكون ذلك تطورًا مذهلًا".
موكير:"الولايات المتحدة تدار من قبل الانتهازيين والهواة"
في هذا السباق الراهن نحو الابتكار والذكاء الاصطناعي، أي دولة تمتلك برأيك أفضل فرصة للصدارة؟
"حتى العام الماضي، كنت أراهن على الولايات المتحدة. لكن خلال الأشهر العشرة الأخيرة لم أعد واثقًا من ذلك، والسبب بالطبع هو إدارة ترامب. المسألة لا تتعلق بأنها معادية للعلم، بل بامتلاكها أفكارًا غير منطقية حوله، وإذا لم تتفق معها فستُعتَبر غير مؤهل.
هذا يشكّل في جوهره تضييقًا على حرية التجربة والابتكار، وعلى إمكانية اختبار أفكار جديدة أو بلورة رؤى جذرية. ثمة قدر من التعسّف في الطريقة التي تُدار بها الأمور، خصوصًا في المجال الطبي، وهذا ما يجعلني قلقًا بشأن الولايات المتحدة.
وعلى الجانب الآخر، أنظر إلى الصين فأرى أن القطاع الخاص قد يواجه عراقيل بفعل تدخل الدولة، لكن الحكومة نفسها نشطة للغاية ومتحمسة للابتكار، إلى درجة قد تجعلها في نهاية المطاف رائدة التكنولوجيا عالميًا.
وأضيف إلى ذلك أنه بالنظر إلى ما يحدث في أوروبا، من تنامي الحركات المناهضة للنمو والتغيّرات التي أصابت النظام السياسي في بعض البلدان مثل المجر وإيطاليا ومع ما نعرفه عن احتمال تكرار الأمر ذاته في إنجلترا خلال الانتخابات المقبلة، لا أشعر بتفاؤل كبير حيال ما يجري في أوروبا اليوم".
يصف موكير حالة من الاستقطاب السياسي الحاد، تُغذّيها خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي، فتدفع الأفراد أكثر فأكثر نحو الجهات المتطرفة بينما "تقضي" على المساحة الوسطى.
وقال لنا: "يُنتج هذا واقعًا ينقسم فيه السكان إلى معسكرين متعاديين، لا يكتفي كل منهما بمعارضة الآخر، بل يكرهه أيضًا. وهذا أمر مقلق، بل يخيفني. ألاحظ ذلك هنا في الولايات المتحدة بشكل لافت. عائلات تتفكك، أزواج وزوجات ينفصلون لأن أحدهما مؤيد لترامب والآخر معارض له. أرى الأمر نفسه حتى في بلدان تُعرف باعتدالها، مثل السويد أو هولندا. هناك غضب واستياء يعتبر فيه الناس الطرف الآخر ليس مجرد خصم، بل عدوًا… وهذا النوع من الاستقطاب يهدد الديمقراطية".
ويتابع: "لذلك نرى شخصيات مثل أردوغان وأوربان، وربما - وآمل ألا يحدث - فاراج. هذا يقلقني كثيرًا. والعواقب باتت واضحة هنا في الولايات المتحدة. نحن الآن من بين أسوأ الدول من حيث مستوى الحوكمة على هذا الكوكب، وتُدار البلاد اليوم من قبل انتهازيين وهواة".
فتح الأبواب أمام المهاجرين
في كل الأحوال، يؤكد موكير أن الحل لا يكمن في إبطاء وتيرة التقدم، بل إن الإجابة قد تكون في المكان الذي يتجنب البعض النظر إليه. وعندما سألناه كيف يمكن لدول مثل اليونان أن تستعيد موقعها في طليعة الابتكار، كانت إجابته مباشرة:
"أشعر أن المطلوب أولاً وقبل كل شيء هو تبنّي أيديولوجية قوية مؤيدة للنمو، على أن يُوجَّه هذا النمو نحو أكثر الاحتياجات إلحاحًا التي يلاحظها الأوروبيون. وهذان الاحتياجان هما التغير المناخي والتغير الديموغرافي، وهما القضيتان الأبرز اليوم. أما الأمر الآخر الذي أنصح به الأوروبيين، رغم أنني أدرك أنهم لن يستمعوا إليّ، فهو فتح الأبواب أمام المهاجرين. ثمة فرص هائلة أمام أوروبا لجذب عمالة مدرّبة وذات مهارات عالية من البلدان التي يرغب هؤلاء الأشخاص في مغادرتها لسبب أو لآخر.. ما يجب فهمه هو أن الكثير ممن يغادرون سوريا وتركيا ومصر والمغرب هم أفراد متعلمون ومدرّبون وذوو مهارات. وهذا بالضبط النوع من القوى العاملة التي تحتاجها أوروبا، خصوصًا أن هؤلاء غالبًا ما يكونون من الشباب. وستكون هذه خطوة ذات أثر كبير في دعم الاقتصادات الأوروبية".
من يكسب ومن يخسر؟
وجّهنا إليه هذا السؤال: "إذا أرادت الحكومات اليوم دفع عجلة الابتكار، فما هي الإصلاحات الأكثر إلحاحًا؟"
فأجاب موكير: "أشعر بأن المطلوب هو شراكة متقدمة للغاية مع القطاع الخاص.
لا أعتقد أن على الحكومة اختيار الفائزين. ينبغي أن تترك للقطاع الخاص مهمة اتخاذ القرارات. دور الحكومة هو توفير رأس المال عند الضرورة، وتدريب المهندسين أو المساهمة في تدريبهم لتطبيق التكنولوجيات الجديدة، وتهدئة مخاوف الفئات التي ستواجه خسائر نتيجة هذه التغيّرات.
صحيح دائمًا أنه مع أي تقدّم تكنولوجي، هناك رابحون وخاسرون. لا أستطيع أن أذكر الكثير من الاختراعات التي لم تتسبّب في خسارة بعض الأشخاص وظائفهم أو جعل مهاراتهم بالية مع ظهور التكنولوجيا الجديدة. هؤلاء موجودون، وسيقاومون التقدّم بقدر ما يستطيعون. فماذا نفعل إذن؟
أحد الحلول هو امتلاك آلية لإعادة تدريب الأشخاص الذين يمكن تأهيلهم من جديد، وتعويض أولئك الذين لا يمكن إعادة تدريبهم. فإذا كنت في الثانية والخمسين من عمرك وأصبحت مهارتك غير صالحة بفعل التطور، يجب أن يكون هناك نظام يعوّض فيه الرابحون من التكنولوجيا الجديدة الخاسرين منها. في بعض الجوانب تؤدي دولة الرفاه في أوروبا هذا الدور، وإن لم يكن بالشكل الأمثل، أما الولايات المتحدة فأسوأ من ذلك. هذا هو الطريق الذي يجب أن نسلكه، بحيث تتراجع مقاومة التغيير التكنولوجي تدريجيًا".