تُعد هذه الدراسة إنذارًا مبكرًا حول ثغرة حرجة في استراتيجيات مراقبة الزئبق العالمية.
كشفت دراسة علمية حديثة نُشرت في مجلة "العلوم الحيوية" (Biogeosciences)، الصادرة عن الاتحاد الأوروبي للعلوم الجيولوجية (EGU)، أن المحاصيل الزراعية القريبة من مواقع التعدين الحرفي والصغير للذهب (ASGM) تتلوث بالزئبق مباشرةً من الهواء، لا عبر الجذور أو التربة.
ويُعيد هذا الاكتشاف تشكيل الفهم العلمي التقليدي لكيفية دخول الزئبق إلى السلسلة الغذائية، إذ أظهرت النتائج أن النباتات تمتص الزئبق الجوي عبر أوراقها أثناء عملية البناء الضوئي، تمامًا كما تمتص ثاني أكسيد الكربون.
ووصف الباحث ديفيد ماكلاغان من جامعة كوينز هذه الظاهرة بأنها "أكبر مصرف للزئبق من الغلاف الجوي إلى النظم الأرضية"، موضحًا أن هذه الخدمة البيئية، رغم دورها في تقليل الانتشار العالمي للزئبق، تتحول إلى تهديد صحي حين تكون المحاصيل الأساسية وسيلة لالتقاطه.
تفاوت صارخ في مستويات التلوث بين مزرعتين
أجرى فريق بحثي دولي، يضم إكسلنت أو. إيبيغبي وديفيد ماكلاغان من جامعة كوينز، وأبيودون أودوكويا ماري من جامعة لاغوس، تحليلاً ميدانيًّا في مجتمع زراعي نيجيري يقع قرب موقع للتعدين الحرفي للذهب.
وقارن الباحثون عيّنات من محاصيل مزروعة على بُعد 500 متر من موقع التعدين بتلك المزروعة على بعد 8 كيلومترات.
وكانت النتائج مثيرة: احتوت أنسجة النباتات في المزرعة الأقرب على تركيزات زئبق أعلى بـ10 إلى 50 مرة مقارنةً بالمزرعة البعيدة.
وسُجّلت أعلى مستويات التلوث في الأجزاء الورقية من المحاصيل التي يُستهلك جزء كبير منها إنسانيًّا أو حيوانيًّا، بينما كانت التركيزات أقل في الأجزاء غير الورقية كالحبوب وجذور الكسافا، رغم بقائها ضمن الحدود الدولية المسموح بها.
مخاطر صحية خفية رغم الالتزام بالمعايير
رغم أن مستويات الزئبق في المحاصيل لم تتجاوز الحدود الدولية، يحذّر الباحثون من أن هذه المعايير لا تعكس الواقع المحلي في المجتمعات القريبة من مناجم الذهب. إذ تعتمد المعايير الحالية على معدلات استهلاك متوسطة، بينما قد يعتمد السكان المحليون كليًّا على محاصيلهم المزروعة في مناطق ملوثة.
كما تشير دراسات سابقة إلى تسجيل مستويات أعلى بكثير من الزئبق في الهواء والتربة والمحاصيل في مناطق التعدين الحرفي.
والزئبق، المستخدم على نطاق واسع لاستخلاص الذهب من الخام، مادة سامة عصبيًّا. ويمكن أن يؤدي التعرض المزمن له، حتى بجرعات منخفضة، إلى تلف الجهاز العصبي، وتأخر النمو المعرفي لدى الأطفال، ومشاكل في القلب والأوعية الدموية والجهاز التناسلي.
التعدين الحرفي: مصدر رزق وتهديد بيئي
وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، بات التعدين الحرفي والصغير للذهب المصدر الأول عالميًّا لانبعاثات الزئبق. ومع ارتفاع سعر الذهب بأكثر من عشرة أضعاف منذ عام 2000، توسّعت هذه الأنشطة بشكل غير منضبط، خاصة في مناطق الجنوب العالمي، حيث يُعد التعدين مصدر دخل حيوي لمجتمعات فقيرة أو نازحة.
وتؤكد الباحثة أبيودون أودوكويا ماري أن "عمال المناجم لن يتوقفوا عن استخدام الزئبق ما لم يُوفَّر لهم بديل سهل المنال وفعّال من حيث التكلفة"، مشيرة إلى الحاجة الملحة لحلول تقنية واقتصادية مستدامة.
دعوة عاجلة لتحديث سياسات الرصد والتخفيف
تُعد هذه الدراسة إنذارًا مبكرًا حول ثغرة حرجة في استراتيجيات مراقبة الزئبق العالمية. فحتى الآن، ركّزت جهود تنفيذ "اتفاقية ميناماتا بشأن الزئبق" على المجاري المائية، والرسوبيات، والمأكولات البحرية، بينما تجاهلت تمامًا المحاصيل الزراعية كمصدر محتمل للتعرض.
وبسبب سمية الزئبق العضوي (الميثيل الزئبق) وقدرته على التراكم الحيوي والتكثيف البيولوجي، ركّزت الأبحاث الوبائية في مناطق التعدين الحرفي بشكل رئيسي على استهلاك الأسماك. لكن هذا العمل يُظهر أن هناك مصادر غذائية أخرى للزئبق، ويمكن أن يكون للزئبق القادم من هذه المصادر المختلفة تأثيرات تراكمية.
مستقبل غذائي على المحك
مع استمرار التوسع في أنشطة التعدين الحرفي عبر إفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا، قد يواجه ملايين الأشخاص مخاطر صحية طويلة الأمد من خلال استهلاكهم اليومي لمحاصيل محلية ملوثة.
وتدعو الدراسة إلى تبني سياسات جديدة تدمج مراقبة الزئبق الجوي في المناطق الزراعية ضمن خطط إدارة المخاطر البيئية والصحية، خاصة في المناطق التي يتقاطع فيها الأمن الغذائي مع الأنشطة التعدينية غير المنظمة.