تظاهر عشرات الآلاف في عواصم أوروبية دعما لغزة، فيما غابت المظاهرات الحاشدة عن معظم المدن العربية التي اكتفت ببيانات رسمية وحملات رقمية ومقاطعة اقتصادية...فما الذي يفسر هذا التباين الكبير في الحراك الشعبي بين الغرب والعالم العربي؟
بينما تشتعل الساحات الأوروبية بمسيرات داعمة لغزة، يُلاحظ غياب المظاهرات الحاشدة في العواصم العربية، ويسود صمت مريب نسبيًا في العديد منها. فكيف أصبح "نصر غزة" التظاهري حاضرًا بقوة في الغرب وغائبًا في المشرق العربي؟
غزة في قلب أوروبا
في أيلول/سبتمبر الجاري، قدمت العاصمة الإسبانية مدريد مشهدًا دراماتيكيًا عندما اجتاح ما يقارب 100,000 متظاهر شوارعها، في احتجاج ضخم أجبر السلطات على إلغاء المرحلة النهائية من سباق "فويلتا إسبانيا" الشهير بعد اقتحام المحتجين لمسار السباق.
وفي بلجيكا، تحالفت أكثر من 200 منظمة حقوقية دولية وعالمية، من "أطباء بلا حدود" إلى "أوكسفام"، لتنظيم مسيرة "الخط الأحمر لغزة"، رافعين لافتات تدين "الإبادة" وتطالب بوقف إطلاق النار الفوري، ومجتمعين تحت صوت واحد: "كفى".
أما في فرنسا، فقد خرج الآلاف في باريس ومدن أخرى، متحدّين أحيانًا قيودًا حكومية حاولت حظر بعض المسيرات، مطالبين بوقف الحرب على غزة والاعتراف بدولة فلسطين. وفي آذار/مارس 2025، تحوّلت مظاهرة سنوية ضد العنصرية في العاصمة إلى مسيرة حاشدة داعمة لفلسطين. رفع المتظاهرون خلالها لافتات تطالب بإنصاف الشعب الفلسطيني وحمايته، وبمحاكمة قادة إسرائيل أمام المحاكم الدولية.
وتتكرر هذه المشاهد أسبوعيًا في لندن وبرلين وستوكهولم وروما وغيرها منذ بدء الحرب على قطاع غزة. فقد أصبحت التظاهرات من أجل غزة روتينًا أسبوعيًا ثابتًا، يقوده ائتلاف واسع من نشطاء حقوق الإنسان، واليسار السياسي، والشباب، والمجتمعات المسلمة والمسيحية، وحتى يهود مناهضون للصهيونية.
المشهد العربي: صمت مطبق يتخلله ومضات خجولة
في المقابل، يقدم المشهد العربي صورة أكثر تعقيدًا وأقل ضجيجًا. فمع بعض الاستثناءات، تظل الاحتجاجات الشعبية الحاشدة محدودة، بل "خجولة" مقارنة بحجم الكارثة الإنسانية والمكانة التاريخية للقضية في الوجدان العربي.
ففي دول مثل مصر والجزائر، حيث المواقف الرسمية داعمة لفلسطين لفظيًا، تمنع السلطات أي تجمع شعبي تحت ذرائع أمنية. والحق في التظاهر، رغم أنه منصوص عليه دستوريًا، يصطدم بحائط أمني صلب، مما يحوّل الغضب الشعبي إلى غضب صامت خلف الشاشات.
وشهدت تونس والمغرب زخمًا نسبيًا في الدعوات للمقاطعة وبعض المسيرات المناصرة لغزة، فيما تفضل دول الخليج بشكل عام "ثقافة الدبلوماسية والمواقف الرسمية" على "ثقافة التظاهر"، التي ليست جزءًا من نسيجها الاجتماعي التقليدي.
أما الدول التي تمزقها النزاعات الداخلية، مثل السودان الذي أنهكته الحرب الأهلية الطاحنة منذ 2023، وسوريا التي أنهكتها سنوات الحرب الأهلية وسقوط نظام الأسد، ولبنان الغارق في أزمات اقتصادية وسياسية خانقة والذي تأثر مباشرة بتداعيات حرب غزة، فنجد أن مواطنيها، رغم تعاطفهم العميق، أصبحوا مرهقين بمحاولة البقاء على قيد الحياة.
ويُقدم اليمن استثناءً لافتًا، حيث خرجت تظاهرات شعبية كبيرة دفاعًا عن غزة، متحدّية التكلفة الباهظة التي تدفعها البلاد بالفعل.
لماذا هذه الفجوة؟
تعود الفجوة الواضحة بين ضجيج الغرب وصمت الشرق إلى عدة عوامل:
الحيز الديمقراطي والحرية: في الديمقراطيات الغربية، الحق في التظاهر والتعبير مكفول دستوريًا، مما يتيح تحويل الغضب إلى حركة ملموسة. أما في العديد من الدول العربية، فهذا الحيز غير موجود أو مغلق بقوة، مما يجعل ثمن الخروج إلى الشارع باهظًا جدًا.
أولويات البقاء: لا يمكن لمجتمع يكافح من أجل الكهرباء والخبز والسلامة الشخصية أن يكرس طاقته للتظاهر، حتى لو كانت القضية عادلة. فالأزمات الداخلية تستنفذ طاقة الشعوب وتجبرهم على التركيز على قضايا البقاء اليومي. كما أن الانقسامات السياسية والإقليمية والمذهبية تجعل من الصعب توحيد الشارع حول قضية واحدة، حتى لو كانت فلسطين.
المجتمع المدني والتنظيم: الحركات المنظمة في الغرب، من اليسار إلى منظمات حقوق الإنسان، تمتلك الخبرة التنظيمية والتمويل والقدرة على حشد الآلاف بسرعة وكفاءة. أما في العديد من البلدان العربية، فالمجتمع المدني إما مقموع أو ضعيف.
متنفس بديل
بينما تتزاحم الساحات الأوروبية بالمتظاهرين المؤيدين لغزة، اتخذ العالم العربي مسارًا مختلفًا للتعبير عن الغضب. فقد تحوّل الصوت الشعبي، في ظل القيود الصارمة على الحريات وحق التجمهر، إلى فضاء رقمي على منصات التواصل الاجتماعي. هناك ينقل المستخدمون صور ومقاطع الحرب المأساوية ويترجمونها إلى لغات عدة، فيما لعب المؤثرون العرب دورًا محوريًا بتحويل حساباتهم إلى منابر للدفاع عن القضية الفلسطينية وجذب الرأي العام العالمي.
ولم يقتصر التعبير الرقمي على الكلمات والصور، بل تطور إلى أدوات عملية مثل حملات مقاطعة المنتجات الداعمة لإسرائيل. إذ نشأت قوائم منظمة للمنتجات المطلوب مقاطعتها وبدائلها، وتبادل المستخدمون استراتيجيات "الشراء الأخلاقي".
وقد أثبتت هذه الحملات فعاليتها، إذ تكبّدت شركات كبرى خسائر ضخمة نتيجة المقاطعة الشعبية. فقد خسرت شركة "ستاربكس" أكثر من 12 مليار دولار من قيمتها السوقية خلال عشرين يومًا فقط في كانون الأول/ديسمبر 2023، نتيجة تراجع أسهمها. كما تكبّدت سلسلة "ستاربكس" في ماليزيا خسائر صافية قياسية بلغت 69 مليون دولار أميركي للسنة المالية المنتهية في حزيران/يونيو 2025.
كذلك، خسرت شركة "ماكدونالدز" نحو 7 إلى 9 مليارات دولار من قيمتها السوقية خلال ساعات، بعد إعلانها تأثر مبيعاتها الدولية في الربع الرابع من 2023 بالمقاطعة. وتراجع سهمها بنسبة 4%، واضطرت الشركة لاحقًا إلى إعادة شراء جميع فروعها في إسرائيل بعد انهيار المبيعات بشكل حاد.