أكدت "شبكة أطباء السودان" في تصريح لـ"يورونيوز" أن قوات الدعم السريع قتلت مرضى ومرافقيهم في المستشفى السعودي، ودفنت الضحايا في مقابر جماعية، بينما أحرقت جثثًا أخرى في مواقع متعددة، في محاولة لإخفاء الجرائم والانتهاكات.
تحت سماء السودان المحمّلة برائحة الدمار، تتهاوى المستشفيات ويختلط أنين الجرحى بصرخات الفارّين من حرب لا تهدأ. وتحوّلت ولاياته الثماني عشرة إلى مساحات مفتوحة تُرتكب فيها انتهاكات شتىّ ، وفي مقدمتها إقليم دارفور ومدينة الفاشر.
في شهادات خاصة لـ"يورونيوز"، يكشف وحقوقيون وأطباء صورةُ صراعٍ يبدو أنه خرج عن السيطرة، يغذّيه تدفق السلاح لأطراف النزاع والاستجابة الدولية الخجولة، فيما يدفع المدنيون الثمن الأكبر في حرب يتسع نطاقها يومًا بعد يوم.
قتلٌ للمرضى واغتصابٌ واحتجاز عائلات في الفاشر
إذا كان سقوط المدنيين هو المأساة الأكبر، فإن الانهيار شبه الكامل للقطاع الصحي يمثّل الكارثة الموازية له وفق ما أفادت به "شبكة أطباء السودان" لـ"يورونيوز".
وكشف المتحدث باسم الشبكة محمد فيصل أن أكثر من 70% من المنشآت الصحية في الخرطوم وولايات أخرى خرجت عن الخدمة منذ اندلاع الحرب، بفعل استهداف المرافق الطبية أو تحويلها لأغراض عسكرية من قبل قوات الدعم السريع، إضافة إلى نقص الأدوية والوقود وانقطاع الكهرباء.
وأشار فيصل إلى أن هذه القوات بقيادة محمد حمدان دقلوا المعروف بحميدتي ارتكبت جرائم خطيرة بحق المدنيين، منها قتل المرضى ومرافقيهم في المقر المؤقت للمستشفى السعودي بالفاشر، واستخدام منشآت مدنية كثكنات عسكرية، واحتجاز نساء وأطفال ومصابين، ولا تزال بعض العائلات ممنوعة من مغادرة المدينة.
وقال: "عقب خروج قوات الجيش من الفاشر، استخدم الدعم السريع عددًا من المواقع كثكنات عسكرية، من بينها مباني كلية العلوم الطبية بجامعة أم درمان الإسلامية، كما تم استخدام المدارس كمراكز احتجاز.. ومع دخولهم المدينة وظهور مقاطع فيديو لتصفيات ميدانية، سارعت قوات الدعم السريع لنفي التهم. في الوقت ذاته، قامت باحتجاز المصابين والأطفال والنساء ومنعتهم من مغادرة المدينة، ولا تزال بعض الأسر محتجزة، وموزّعة بين مدينة طويلة وعدد من المناطق حول الفاشر".
ورغم التراجع المحدود في انتشار وباء الكوليرا وحمى الضنك منذ أكتوبر/تشرين الأول، فإن المخاطر ما تزال مرتفعة بسبب نقص المياه النظيفة وتوقف برامج مكافحة النواقل، وفق الشبكة.
وقدّرت شبكة أطباء السودان عدد القتلى بأكثر من 17 ألف شخص في 18 شهرا وهي المدة التي استغرقها حصار الفاشر من قبل قوات حميدتي، بينهم أكثر من ألفي قتيل بعد اجتياح المدينة، مع تسجيل ارتفاع كبير في حالات العنف الجنسي ضد النساء مؤكدة أن الأرقام الموثّقة لا تعكس حقيقة الانتهاكات.
في هذا الصدد، أكد المتحدث باسم الشبكة تسجيل حالات عديدة من الاعتداء الجنسي في الفاشر وبارا، حيث أبلغت أغلب الناجيات عن تعرضهن للاغتصاب. كما أقرّت بعض النسوة الناجيات باختطاف فتيات من أقاربهن على يد قوات الدعم السريع بحسب المتحدث الذي يرى أن "بعض الضحايا لا ترغبن في الكشف عمّا تعرضت له لأسباب اجتماعية، وبعضها لأسباب نفسية، لكن فرقنا رصت أكثر من حالة تعرضت فيها النازحات للاغتصاب أثناء تنقلهن من الفاشر إلى طويلة، ومن بارا إلى الأبيض، إلا أن هذا الرقم يبقى أقل بكثير مقارنة بعدد المهجّرين من الفاشر وبارا".
استنادا لما أظهرته صور الأقمار الصناعية ووثقته بعض المراكز المتخصصة وشهادات الناجين، لفت محمد فيصل إلى أن الدعم السريع قام بتجميع الجثث ودفن بعضها في مقابر جماعية، بينما أحرق جثثا أخرى في مواقع متعددة، في محاولة لإخفاء الجرائم والانتهاكات.
"أرض الذهب تتحول إلى أرض المقابر الجماعية"
تأخذنا الناشطة الحقوقية شادية عبد المنعم في رحلة عبر تاريخ دارفور، تكشف من خلالها كيف أن الأحداث الدامية التي تشهدها المنطقة ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة مترابطة من "العسكرة والسياسات المختلة والإفلات من العقاب". وتعود عبد المنعم ، في حديثها ليورونيوز"، إلى بداية تشكيل "الميليشيات" في الثمانينيات مع ظهور "المراحيل"، مرورًا بـ "التجمع العربي" (1986)، ثم "فيالق الجمال" أو "الجنجويد" في 2003، قبل تحويلها إلى "حرس الحدود"، ثم إلى "قوات الدعم السريع" في 2014 التي مُنحت حصانات واسعة مكّنتها من "التمدد العسكري وارتكاب الفظائع".
ورغم أن دارفور غنية بالذهب والصمغ العربي، فإن الإقليم ظل مهمشًا، لتتحول الثروات لاحقًا إلى وقود للصراع، حيث تتجنب الأطراف المتحاربة استهداف حقول الذهب بينما تتساقط القنابل على المدن المكتظة بالمدنيين.
ذات الفظائع تنقلها الناشطة استنادا لشهادات ناجين وتقاريرميدانية. فهي تؤكد أن قوات الدعم السريع ارتكبت مجازر ممنهجة في الفاشر وبارا، شملت قتل المرضى داخل المستشفيات، واغتصاب النساء والفتيات جماعيًا، وخطف المدنيين، إضافة إلى حرق الجثث أو دفنها في مقابر جماعية، في مشاهد تعيد إلى الأذهان مآسي عام 2004، "ولكن بوحشية أكبر" كما تقول.
وقالت عبد المنعم: "صمود الفاشر فاق مدنًا صمدت في التاريخ مثل ستالينغراد وصنعاء وسراييفو.. صمدت الفاشر، لكن التاريخ خذلها."
وحذرت من أنّ ما حدث في الفاشر يشكل "جرس إنذار" لمدينتَي الأبيض وبانوسة المحاصرتين، مؤكدة أنّ الحرب الحالية كشفت عن حقيقة مفادها: "لا اعتبار لحياة الإنسان في صراع الذهب والسلطة." وفق تعبيرها.
وأضافت: "ما حدث في الفاشر ينذر بضرورة الانتباه إلى تكلفة استمرار الحرب على المدنيين والدولة، سواء من ناحية دورة الانتهاكات الممنهجة بكل أشكالها، وكذلك الدستورية، والتدمير للمدن وتعريض إرثها المادي للنهب والسلب والدمار.. لا مجال للحديث عن القيم المعنوية والثقافية والفنية، فالحرب تقف على النقيض منها. وحرب أبريل (وتعني أبريل 2023) كشفت أنّه لا اعتبار لحياة الإنسان وكرامته في صراعات الذهب والسلطة. ما حدث يقرع جرس الإنذار للانتباه لمدن الأبيض وبانوسة المحاصرتين."
وختمت المتحدثة بالقول: "المجازر المروّعة التي حدثت في الفاشر لم تكن الأولى، وإذا لم يصْحُ الضمير الإنساني فلن تكون الأخيرة.. فقد ارتكبت أطراف الحرب جرائم يندى لها الجبين منذ بدايتها في مناطق مختلفة من السودان، إلا أنّ مجازر الفاشر فاقت أي تصوّر، حيث ارتكبت أفعال همجية ضد المدنيين، وخاصة النساء، من عنف جنسي واغتصابات وقتل جماعي."
"جرائم ضد الإنسانية وانهيار كامل لمنظومة الحماية"
ناشطة حقوقية أخرى تحدثت لـ"يورونيوز" ورفضت الإفصاح عن اسمها لأسباب أمنية، تقول إن السودان يشهد أوسع نطاق من الانتهاكات منذ بداية النزاع، لا سيما في دارفور والفاشر، وأن ما يحدث في هذا البلد هو "جرائم ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية".
وتوضح المتحدثة أنّ قوات الدعم السريع نفذت هجمات واسعة ضد المدنيين في مدن مثل الفاشر والجنينة وزالنجي، مستخدمة المدفعية الثقيلة والرصاص الحي والطائرات المسيرة، ما تسبب في مقتل الآلاف وتشريد مئات الآلاف.
وأضافت: ارتكبت قوات الدعم السريع عمليات قتل جماعي ذات طابع عِرقي استهدفت جماعات المساليت.. الانتهاكات شملت الاغتصاب والعنف الجنسي ضد النساء والفتيات، والسيطرة على المستشفيات والمقار الإنسانية وتحويلها إلى مواقع عسكرية، ما أدى إلى شلل شبه كامل للخدمات الطبية ونزوح ملايين المدنيين.
وعلى الرغم من أنّ قوات حميدتي تتحمل الجزء الأكبر من الجرائم في دارفور، إلا أن الجيش السوداني أيضًا متّهم بالقصف العشوائي والاعتقالات التعسفية وتأجيج الانقسامات العرقية، وفق المتحدثة.
وتؤكد أنّ ما يجري يمثل "انهيارًا كاملًا لمنظومة الحماية المدنية"، مشيرة إلى أنّ الدعم السريع تحوّل إلى "قوة مسلحة خارج السيطرة القانونية"، في حين فشل الجيش في حماية المدنيين، مما يجعله "شريكًا في المسؤولية بموجب قواعد المسؤولية الدولية عن الحماية".
واعتبرت أنّ الحل لا يمكن أن يكون عسكريًا، بل عبر عدالة انتقالية شاملة ومحاسبة الجناة، وإصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية، وإطلاق حوار وطني يعيد بناء الثقة بين كل المكوّنات الاجتماعية في السودان.