أصبحت تجارة الذهب غير المشروعة العمود الفقري لاقتصاد الحرب، إذ تُستخدم عائداتُ التعدين من قبل قوات الدعم السريع والجيش على حدّ سواء لتمويل العمليات العسكرية وشراء الوقود والأسلحة.
تدخل الحرب الأهلية في السودان عامها الثالث وقد تحولت من صراعٍ على الحكم إلى معركة مفتوحة للسيطرة على الثروات.
فما بدأ في أبريل/نيسان 2023 كمنافسة بين الجيش وقوات الدعم السريع، أصبح اليوم حربًا اقتصادية مكتملة الأركان، تتغذى على الموارد الطبيعية وتعيد تشكيل خريطة النفوذ داخل البلاد.
ومن خلال سيطرة قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة من دارفور وكردفان، الغنيتين بالذهب، منحتها مصدر تمويل ضخم. إذ يُهرّب نحو 80% من إنتاج السودان من الذهب إلى الخارج عبر شبكات معقدة تمتد إلى دول الجوار وتغذي سوقًا سوداء عالمية. ومع سقوط مدينة الفاشر مؤخرًا، أحكمت هذه القوات قبضتها على مناجم رئيسية تمثل شرايين الذهب في غرب البلاد.
ذهب السودان.. العملة الصلبة للحرب
يُشكل الذهب اليوم نحو 70% من صادرات السودان الرسمية، غير أن الجزء الأكبر يُستخرج بطرق غير نظامية ويُتاجر به في السوق السوداء.
ووفق تقديرات الأمم المتحدة، أنتجت المناجم الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع في دارفور وحدها ذهبًا بقيمة 860 مليون دولار خلال عام 2024.
وأصبحت تجارة الذهب غير المشروعة العمود الفقري لاقتصاد الحرب، حيث تشير التقارير إلى أن قوات الدعم السريع والجيش على حدّ سواء يستخدمان عائدات التعدين لتمويل العمليات العسكرية وشراء الوقود والأسلحة. كما دخلت على الخط أطراف خارجية، من بينها "فيلق أفريقيا" (الذي كان يُعرف باسم مجموعة فاغنر الروسية)، حيث تدير مصافي ذهب خاصة على نهر النيل وتساهم في تهريب المعدن النفيس إلى الخارج.
موارد تُنهب لا تُنمّى
رغم أن السودان يملك أحد أكبر احتياطيات الذهب في القارة، إلا أن ثرواته المعدنية لا تتوقف عند هذا المعدن الأصفر. فـ تلال البحر الأحمر وجبال النوبة تختزن كميات ضخمة من النحاس، أحد العناصر الحيوية في الصناعات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي، بينما تحتوي مناطق دارفور والحدود مع إفريقيا الوسطى على رواسب من اليورانيوم كانت في طريقها لتشكل أساس شراكات طاقة مع روسيا والصين قبل أن تعرقلها الحرب.
كما تمتلك البلاد خام الحديد، والكروم، والمنغنيز، والمعادن الأرضية النادرة التي تتسابق عليها الأسواق العالمية. لكن بدلاً من أن تكون هذه الثروات قاطرة للتنمية، تحولت إلى مصادر تمويل متنازع عليها، وأداة لإطالة أمد النزاع.
النفط.. خسارة الجنوب وبداية الاعتماد على الذهب
منذ انفصال جنوب السودان عام 2011، فقدت الخرطوم ثلاثة أرباع إنتاجها النفطي، شكّل ذلك ضربة قاسية للاقتصاد، فحلّ الذهب محل النفط كمورد رئيسي للنقد الأجنبي.
ورغم أن السودان ما زال ينتج نحو 135 ألف برميل نفط يوميًا، إلا أن هذا الرقم لا يغطي العجز الهائل في الموازنة العامة، خاصة مع تراجع الاستثمار في قطاع الطاقة بسبب انعدام الأمن.
وتُخطط الحكومة لرفع الإنتاج إلى 320 ألف برميل يوميًا بحلول 2030 من خلال إعادة تشغيل الحقول المتوقفة وجذب استثمارات جديدة، لكن استمرار الحرب يجعل هذه الخطط أقرب إلى الطموحات منها إلى الواقع.
الزراعة.. الثروة المنسية في أرض النيل
بعيدًا عن الذهب والنفط، يمتلك السودان إمكانات زراعية هائلة تجعله مؤهلًا ليكون "سلة غذاء العالم". إذ تمتد الأراضي الصالحة للزراعة على مساحة 16.9 مليون هكتار، وتغطي الزراعة وتربية الماشية مصدر العيش لأكثر من 60% من السكان.
وتنتج البلاد محاصيل استراتيجية مثل القطن، السمسم، الفول السوداني، والذرة، إلى جانب الصمغ العربي الذي يُشكّل 80% من الإنتاج العالمي. ومع ذلك، يعاني القطاع من الإهمال المزمن ونقص البنية التحتية والتأثر المباشر بالحرب الدائرة في مناطق الإنتاج.
الثروة الحيوانية والمائية.. أرقام مذهلة بلا مردود
يمتلك السودان أكثر من 130 مليون رأس من الماشية، ما يجعله من أكبر منتجي اللحوم في إفريقيا. كما تقدر الثروة السمكية بنحو 110 آلاف طن سنويًا في المياه العذبة والبحر الأحمر. ورغم هذه الأرقام الضخمة، تبقى الاستفادة منها محدودة بسبب ضعف منظومات التسويق والتصدير وانعدام الاستقرار الأمني.
أما الموارد المائية، فتعد من أبرز عناصر القوة في السودان. إذ تبلغ حصة البلاد من مياه النيل 18.5 مليار متر مكعب سنويًا، إلى جانب احتياطيات جوفية هائلة. لكن سوء الإدارة وتدهور البنية التحتية حالا دون استثمار هذه الثروة في مشاريع تنموية حقيقية.
الصناعة بين الطموح والعزلة
شهدت السنوات الماضية محاولات لإنعاش القطاع الصناعي عبر مشاريع مثل مجمع جياد الصناعي الذي يجمع السيارات والمعدات العسكرية، وصناعة الإيثانول في مصنع سكر كنانة الذي جعل السودان أول دولة عربية تُنتج الوقود الحيوي. غير أن الحرب الأخيرة شلّت هذا النشاط وأعادت البلاد إلى اقتصاد الريع القائم على المواد الخام.