بعد استيلاء قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، بات مستقبل السودان - البلد الذي كان يُعتبر يومًا الأكبر مساحة في العالم العربي وسلة غذائه - على المحك، حيث يلوح في الأفق شبح التقسيم في غرب البلاد، في مشهد يذكّر بانفصال الجنوب عام 2011.
يمثل سقوط الفاشر، آخر المعاقل الإقليمية الكبرى التي صمدت خارج سيطرة الدعم السريع، تحوّلاً جيوسياسياً مصيرياً. فهو ليس مجرد تغير في موازين القوى العسكرية على الأرض، بل إعلان عملي عن خروج إقليم دارفور بالكامل من عباءة الحكومة المركزية في الخرطوم، وبداية مرحلة جديدة نحو الانفصال الفعلي.
هذا الانتصار يمنح قوات الدعم السريع منفذاً حيوياً نحو الحدود مع تشاد وليبيا، حيث يوجد جماعات تقاتل لصالحها، ويؤمّن لها خطوط إمداد مستمرة للسلاح والوقود، ويعزّز سيطرتها على مناجم الذهب وشبكات التجارة غير الرسمية التي تمول عملياتها.
جذور الأزمة المتشعبة
ويرى مراقبون أنه لا يمكن فهم هذا التحول بمعزل عن السياق التاريخي للأزمات المتعاقبة التي مزّقت السودان، الدولة التي كانت من أكبر منتجي معدن الذهب، والتي دفعت الحروب فيها بأكثر من 24 مليون شخص – وفقًا لتقديرات نائب الأمين العام للشؤون الإنسانية أمام مجلس الأمن – إلى حافة المجاعة، عاجزين عن الحصول على قوتهم اليومي.
• بدايات الاضطراب (1985-1998): شهدت هذه الحقبة سلسلة من المنعطفات، بدأت بالإطاحة بنظام الرئيس جعفر النميري عام 1985، مروراً بانقلاب عمر البشير عام 1989 بدعم من التيار الإسلامي.
• حروب دارفور (2003): في بداية الألفيةاندلع الصراع في إقليم دارفور بسبب توترات طويلة بين القبائل العربية والقبائل الأفريقية حول الأراضي وموارد الرعي والمياه. وزادت هذه التوترات بسبب شعور سكان دارفور بالتهميش السياسي والاقتصادي من قبل حكومة البشير المركزية في العاصمة الخرطوم. لكن النزاع تحول إلى مواجهة دموية بين متمرّدين من الإقليم والقوات الحكومية، التي دعمتها ميليشيات الجنجويد، وأسفر عن مقتل نحو 300 ألف شخص وتشريد الملايين.
والجنجويد هي ميليشيات من قبائل عربية استعان بها نظام البشير في مطلع الألفية، وأُعيد تنظيمها رسميًا عام 2013 كقوة تابعة لجهاز الأمن والمخابرات الوطني، تحت ذريعة مكافحة التمرد وحماية الحدود. ومع مرور الوقت، تعزز نفوذها بشكل سريع بعد حصولها على تسليح ثقيل وموارد مالية كبيرة، لتصبح أحد أبرز الفاعلين العسكريين في السودان، ومهدت بذلك لتشكيل قوات الدعم السريع.
• انفصال الجنوب (2005-2011): شكل انفصال جنوب السودان عام 2011 محطة فارقة في تاريخ البلد، وقد جاء تتويجاً لمسار معقد من الصراع تمتد جذوره لعقود، لكن هذا الانفصال كان نتاج تفاعل عدة عوامل أساسية منها:
الاختلافات القبلية والدينية: حيث مثل الاختلاف الديني والعرقي عاملاً أساسياً، مع هيمنة الهوية العربية الإسلامية على شمال البلاد، بينما احتفظ جنوبه بهوية أفريقية تزاوجت بين المسيحية والمعتقدات التقليدية، مما غذى صراعات مستمرة حول الهوية الوطنية وتوزيع السلطة.
الصراع على الموارد النفطية: على الرغم من وقوع غالبية احتياطات النفط في الجنوب، احتكرت الحكومة المركزية في الخرطوم عائداتها، مما خلق احتقاناً اقتصادياً عميقاً وشعوراً بالاستغلال في الأقاليم الجنوبية.
تراكمات الحروب الأهلية: خاضت المنطقة سلسلة من الحروب الأهلية المتقطعة امتدت لنحو خمسة عقود، أسفرت عن مقتل أكثر من مليوني شخص وتشريد الملايين، مما عمق الهوة بين الشمال والجنوب.
الاتفاقية الشاملة للسلام (2005): مثلت هذه الاتفاقية منعطفاً حاسماً بعد وساطة دولية، نصت على منح الجنوب حكماً ذاتياً لمدة ست سنوات، يليه استفتاء لتقرير المصير.
الاستفتاء وإعلان الاستقلال: في يناير 2011، جرى استفتاء شعبي تحت مراقبة دولية، انتهى بتصويت 98.83% من الجنوبيين لصالح الانفصال، ليتم الإعلان الرسمي عن جمهورية جنوب السودان في 9 يوليو 2011.
- الانقلاب والحرب الأهلية (2019-2023): في عام 2019، أطاحت انتفاضة شعبية واسعة بالرئيس عمر البشير، منهيةً بذلك ثلاثة عقود من حكمه. وقد قادت هذه الثورة البلاد إلى مرحلة انتقالية هشة، تولى خلالها السلطة مجلس سيادة يترأسه الفريق أول عبد الفتاح البرهان قائد الجيش، ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي" قائد قوات الدعم السريع اللذين لم يلبثا إلا أن اختلفا.
جذور الأزمة بين الشريكين
بعد الإطاحة بالبشير، تشكلت سلطة انتقالية هشة جمعت بين شريكين غير متكافئين: مؤسسة الجيش التقليدية وقوات الدعم السريع شبه العسكرية. وقد تفجر الصراع بينهما بسبب خلافات جوهرية حول مستقبل البلاد، تمحورت حول:
• دمج قوات الدعم السريع: الخلاف على آليات ومواعيد دمج ما يقارب 100 ألف عنصر من قوات الدعم السريع في الجيش النظامي.
• القيادة: الصراع على من سيتولى قيادة القوات المسلحة الموحدة.
• السلطة والثروة: الشكوك المتبادلة حول نوايا كل طرف في السيطرة على مقاليد الحكم والموارد الاقتصادية للبلاد.
اندلاع الحرب:
في 15 أبريل/نيسان 2023، بعد أيام من التصعيد الناجم عن إعادة انتشار قوات الدعم السريع في أنحاء البلاد - وهو ما اعتبره الجيش استفزازياً وتحدياً لسيادته - اندلع القتال بين الطرفين في العاصمة الخرطوم ومناطق أخرى.
ورغم الجدل حول من بدأ بإطلاق النار الأول، إلا أن الاشتباكات تطورت بسرعة إلى حرب شاملة، سيطرت خلالها قوات الدعم السريع على معظم العاصمة، قبل أن يعيدها الجيش إليه في مارس/آذار 2025 بعد معارك ضارية.
النتائج الإنسانية للحرب في السودان
وفق تقارير أممية، قتلت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع عشرات الآلاف من المدنيين، وتسببت في نزوح 13 مليون شخص وتشريد 10 ملايين آخرين، فضلًا عن تعرض النساء والفتيات للاختطاف والزواج القسري، حيث استخدمت الانتهاكات الجنسية كسلاح على يد الدعم السريع.
كما شهد النزاع تدمير المنشآت المدنية ونهب المرافق الحيوية وقصف المستشفيات، إلى جانب تفشي المجاعة، خاصة في دارفور، حيث بات الناس يأكلون أوراق الشجر وعلف الحيوانات، وقد وُصف هذا النزاع بأنه أسوأ أزمة إنسانية على الإطلاق.
غوتريتش يدعو الأطراف الخارجية إلى كف أيديهم عن السودان
بعد سقوط الفاشر وفشل كافة محاولات التهدئة، حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أن التدخلات الخارجية تقوض فرص السلام، داعيًا إلى وقف تزويد الأطراف المتحاربة بالسلاح.
ومن المعروف أن الحرب الأهلية جذبت أكثر من 10 بلدان أفريقية، عربية وآسيوية لدعم طرف على حساب الآخر.. فمن هي تلك الدول والقوى الفاعلة التي تؤثر في مجرى الأحداث؟
المعسكر الأول: دعم قوات الدعم السريع (RSF)
- إثيوبيا وإريتريا: تدعمان ميليشيات قوات الدعم السريع، التي قاتلت مؤخرًا إلى جانب إثيوبيا ضد جبهة تحرير تيغراي، التي تدعم القوات المسلحة السودانية (SAF).
- الإمارات وتشاد وليبيا: -تشاد: تُتهم بتسهيل نقل الأسلحة من الإمارات عبر مطاراتها الشرقية في مدينتي أبيشي وأم جراس، مسقط رأس الرئيس السابق إدريس ديبي الموالي لقوات الدعم السريع.
-الإمارات: بنت مستشفى في أبيشي للاجئين السودانيين، إلا أن بعض التقارير تشير إلى استخدام المرافق لأغراض عسكرية وتهريب أسلحة، وتزود القوات بالأسلحة والطائرات بدون طيار.
- ليبيا: يدعم الجنرال خليفة حفتر قوات الدعم السريع من خلال تسهيل تهريب الأسلحة وإرسال مقاتلين لتعزيز صفوفها.
المعسكر الثاني: دعم القوات المسلحة السودانية (SAF)
- مصر: داعمة تاريخيًا للجيش السوداني منذ الحكم الاستعماري البريطاني-المصري، وتواصل دعم الجيش حاليًا بسبب معارضتها لمتمردي تيغراي وسد النهضة الإثيوبي.
- روسيا وأوكرانيا: روسيا تاريخيًا داعمة للجيش، وتسعى لإنشاء قاعدة بحرية في بورتسودان مقابل تزويده بالأسلحة. و أوكرانيا بسبب معارضتها لمجموعة فاغنر التي دعمت قوات الدعم السريع.
- تركيا وقطر: الاولى زوّدت الجيش بطائرات بيرقدار بدون طيار لمواجهة قوات الدعم السريع. والثانية تقدم دعمًا سياسيًا للقوات المسلحة، التي تضم الآن فصائل إسلامية مثل لواء البراء ابن مالك.
- إيران: يقال إنها عادت لدعم الجيش بعد انقطاع العلاقات أثناء حكم البشير، وقدمت طائرات المهاجر-6 بدون طيار لمساعدته على استعادة المواقع الاستراتيجية من قوات الدعم السريع.
- الجزائر: عرضت طائرات مقاتلة لدعم القوات السودانية المسلحة بقيادة عبد الفتاح البرهان، ردًّا على دعم الإمارات لقوات الدعم السريع.
- جنوب السودان: يضمن استمرار تدفق صادرات النفط، ويستقبل على أراضيه اللاجئين الفارّين من الحرب، ويعمل على التنسيق مع قوات البرهان لضمان أمن الحدود.
- الولايات المتحدة: تركز على الدعم السياسي والدبلوماسي لإنشاء نظام مدني ليبرالي، زيادة الحضور الدبلوماسي في الخرطوم، مع فرض عقوبات على شركات وأفراد يدعمون أيًا من الطرفين لتقليل تمويل النزاع، وتراقب التدخلات العسكرية الروسية والإماراتية، كما تهتم بالأمن البحري للبحر الأحمر ومنع انتشار "الإرهاب من اليمن والصومال إلى السودان" حسب روايتها.
- إسرائيل: يسعى البرهان، لإتمام مسار تطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل دعم سياسي وعسكري. وفق تقارير إعلامية إسرائيلية، زار مبعوث خاص للبرهان إسرائيل في أبريل الماضي وشرح أن الجيش لجأ إلى إيران بعد فشل الحصول على دعم إسرائيلي، وأن البرهان مستعد لتلبية أي شروط إسرائيلية لتسريع الاتفاق، رغم نفي الجيش هذه التقارير. وقد يوفر التطبيع المحتمل مجالات تعاون مثل التكنولوجيا، التعليم، الأمن، والزراعة.
 
     
     
     
     
             
             
             
     
                     
                     
                    