تسجّل المستشفيات في غزة ارتفاعًا مقلقًا بأعداد المواليد الذين يعانون من تشوهات خلقية وولادات مبكرة ونقص حاد في الوزن، رغم دخول وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس حيّز التنفيذ مطلع أكتوبر، في ظل استمرار القيود على إدخال المساعدات الإنسانية وعدم التزام إسرائيل الكامل بالبروتوكول الإنساني الموقع.
يأتي هذا الارتفاع بعد نحو عامين من الحرب التي ألحقت أضرارًا واسعة بالنظام الصحي، وأثّرت بشكل مباشر على تغذية النساء الحوامل وإمكانية حصولهن على رعاية طبية منتظمة، وهو ما ينعكس اليوم على صحة الأجنة وحديثي الولادة، بحسب أطباء يعملون في أقسام الولادة والحضانات.
نقص الغذاء والدواء
تؤكد وزارة الصحة الفلسطينية في غزة أن تدفق المساعدات الطبية والغذائية لا يزال دون المستوى المطلوب، رغم وقف إطلاق النار، نتيجة القيود المفروضة على إدخال الأدوية والمكملات الغذائية والمستلزمات الطبية. وتشير الوزارة إلى أن هذا النقص أدى إلى تدهور صحة النساء الحوامل، وارتفاع في الولادات المبكرة، خاصة في الأسابيع 30 إلى 32 من الحمل، بدلًا من المعدل الطبيعي الذي يتراوح بين 38 و40 أسبوعًا.
ويربط أطباء هذا الواقع بزيادة حالات التشوهات الخلقية، لا سيما تلك المرتبطة بنقص حمض الفوليك والأحماض الدهنية الأساسية، وهي عناصر ضرورية لتكوّن الجهاز العصبي والعظام لدى الجنين، ولا تتوفر بشكل كافٍ في ظل سوء التغذية وغياب المكملات.
أقسام الولادة تحت ضغط مستمر
في مستشفى الشفاء بمدينة غزة، تقول ياسمين أحمد، رئيسة قسم الحمل الخطر، إن الطواقم الطبية رصدت خلال فترة الحرب تنوعًا واسعًا في التشوهات الخلقية بين المواليد، تركز معظمها في الجهاز العصبي وتشوهات العظام، إلى جانب حالات الشفة الأرنبية وعدم اكتمال تكوّن الجهاز العصبي. وتوضح أن عدد الحالات المسجلة خلال شهر واحد، وفق إحصاءات يدوية أجراها القسم، بلغ سبع حالات، توفي جميع الأطفال المصابين بها إما عند الولادة أو خلال ساعات قليلة بعدها، مشيرة إلى أن عدد هذه الحالات آخذ في الازدياد من شهر إلى آخر.
من جهتها، تقول ريم محمد إسليم، قابلة قانونية في مستشفى الشفاء، إن الحرب تسببت في صعوبة وصول النساء الحوامل إلى مراكز الرعاية الصحية وغياب المتابعة المنتظمة للحمل والكشف المبكر. وتوضح أن الحالات التي جرى رصدها شملت تشوهات في الجهاز العصبي والجهاز الهضمي والجهاز العظمي، من بينها ولادات لأطفال لم تكتمل عظام الجمجمة لديهم، أو مصابين بالشفة الأرنبية، أو يعانون من نقص في عدد الأطراف أو الأصابع، مرجعة ذلك إلى ضعف الإمكانيات وغياب بيئة صحية مناسبة لمتابعة الحوامل.
لا إحصاءات دقيقة
لا تتوفر بيانات شاملة ودقيقة عن حجم الزيادة في التشوهات الخلقية في غزة، في ظل تدمير مرافق صحية وتعطل أجهزة الفحص والتصوير ونقص الكوادر والمستلزمات. ومع ذلك، تشير جهات طبية وإغاثية إلى ارتفاع غير مسبوق في هذه الحالات منذ بدء الحرب في تشرين الأول/أكتوبر 2023 واستمرارها حتى بعد وقف إطلاق النار.
ووفق إدارة الإغاثة الطبية في القطاع، تجاوزت نسبة تشوهات الأجنة 25 في المئة، وهي نسبة وصفتها بأنها مرتفعة وخطيرة، في حين تفيد وزارة الصحة الفلسطينية في غزة بأن المعدلات المسجلة في بعض المستشفيات تفوق المستويات الطبيعية عالميًا، وتصل في بعض التقديرات إلى نحو 200 حالة لكل ألف مولود، مقارنة بمعدل عالمي تقدره منظمة الصحة العالمية بنحو 40 حالة لكل ألف.
في المقابل، تُظهر بيانات رسمية لوزارة الصحة الفلسطينية في غزة أن أكثر من 55 ألف طفل وُلدوا خلال نحو 18 شهرًا، جرى توثيق 144 حالة تشوه خلقي بينهم، وهو رقم يرى مختصون أنه لا يعكس الحجم الحقيقي للمشكلة، بسبب محدودية الفحوصات المبكرة خلال الحمل وصعوبة التوثيق.
الحضانات تواجه تحديات مضاعفة
في أقسام حضانات الأطفال حديثي الولادة، تتفاقم التحديات مع ازدياد أعداد الأطفال الخدج والمصابين بعيوب خلقية. ويقول حسن حرارة، من قسم حضانات الأطفال حديثي الولادة في مستشفى الحلو الدولي بغزة، إن القسم يستقبل أطفالًا يولدون وهم يعانون من عيوب خلقية متعددة تتطلب رعاية دقيقة ومكثفة للحفاظ على حياتهم. ويضيف أن نقص الإمكانيات والإمدادات الطبية يحدّ بشكل كبير من القدرة على التعامل مع هذه الحالات، سواء كانت مرتبطة بعيوب في القلب أو الجهاز الهضمي أو الجهاز العصبي، مؤكدًا أن الأطفال الخدج وحديثي الولادة هم الفئة الأضعف والأكثر تضررًا.
اليونيسف: وفيات يمكن تجنبها
تحذر منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) من أن سوء تغذية النساء الحوامل في غزة لا يزال قائمًا رغم وقف إطلاق النار، بسبب بطء إدخال المساعدات وعدم كفايتها. وقالت مديرة التواصل في المنظمة، تيس إنغرام، إن التقارير أفادت بوفاة ما لا يقل عن 165 طفلًا خلال الحرب في وفيات مرتبطة بسوء التغذية وكان يمكن تجنبها.
وتُظهر بيانات اليونيسف أنه رغم انخفاض معدل المواليد، ارتفع عدد الأطفال الذين توفوا في يومهم الأول بنسبة 75 في المئة، من متوسط 27 طفلًا شهريًا في عام 2022 إلى 47 طفلًا شهريًا بين تموز/يوليو وأيلول/سبتمبر 2025. وتوضح المنظمة أن هذه الزيادة تعود إلى تداخل عوامل عدة، من بينها الولادات المبكرة، وانخفاض وزن الولادة، وتزايد التشوهات الخِلقية، إلى جانب محدودية الرعاية السابقة للولادة.
الدعم النفسي للأمهات بعد الولادة
إلى جانب التداعيات الصحية، تبرز آثار نفسية عميقة على الأمهات. وتقول هيام خلف الله، الأخصائية النفسية في دائرة الصحة النفسية بجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني بغزة، إن النساء اللواتي يضعن مواليد يعانون من تشوهات خِلقية يواجهن صدمة نفسية حادة، تتفاقم مع الخوف المستمر على حياة الطفل ومحدودية الخيارات العلاجية. وتشير إلى أن برامج الدعم النفسي تركز على مساعدة الأمهات على تقبّل الواقع الصحي للمولود والتعامل مع القلق والخوف من فقدانه، في ظل توثيق وزارة الصحة الفلسطينية في غزة حالات وفاة بين مواليد مصابين بتشوهات خِلقية، محذّرة من أن حجم هذه البرامج لا يزال محدودًا مقارنة باتساع الاحتياج.
أزمة مستمرة رغم وقف إطلاق النار
تؤكد اليونيسف أنها قدمت مكملات غذائية لأكثر من 45 ألف امرأة حامل ومرضع، وفحصت أكثر من 150 ألف طفل دون سن الخامسة للكشف عن سوء التغذية الحاد، وأدرجت أكثر من 14 ألف طفل في برامج العلاج، لكنها تشدد على أن هذه الجهود لا تزال غير كافية ما لم يُلتزم بالبروتوكول الإنساني بشكل كامل، ويُسمح بإدخال المساعدات والأدوية دون قيود.
ويجمع أطباء ومنظمات إنسانية على أن أزمة تشوهات الأجنة والمواليد في غزة لم تنتهِ مع وقف إطلاق النار، بل تستمر بوصفها أحد أكثر تداعيات الحرب صمتًا، في ظل نظام صحي لم يتعافَ بعد، ومخاوف من آثار طويلة الأمد على صحة الأجيال القادمة.