ما يبدو مؤكداً حتى الآن هو أن العلاقات الأولى في حياتنا ليست مجرد ذكريات طفولة، بل هي اللبنة التي تُبنى عليها قدرتنا على الحب والثقة والتواصل في بقية مراحل العمر.
في عالم علم النفس، لا تزال نظرية التعلّق تحتل مكانة مركزية في تفسير كيفية تشكّل العلاقات الإنسانية، فبحسب هذه النظرية، فإن التجارب العاطفية الأولى في الطفولة تضع الأسس التي يبني عليها الإنسان طريقته في التواصل والتفاعل مع الآخرين عندما يكبر، سواء في الحب أو الصداقة أو الحياة الأسرية.
وفي أحدث الأبحاث التي تدعم هذه النظرية، كشفت جامعة مينيسوتا الأمريكية في دراسة طويلة الأمد نشرتها في مجلة Journal of Personality and Social Psychology، أن نوعية العلاقات المبكرة التي يعيشها الطفل مع أسرته وأصدقائه يمكن أن تحدد مدى قدرته على بناء علاقات مستقرة وآمنة في مرحلة البلوغ.
رعاية الأم ودفء الطفولة يرسمان ملامح الأمان العاطفي
تابع الباحثون بيانات أكثر من 700 شخص وعائلاتهم على مدار ثلاثة عقود، منذ المهد وحتى الثلاثين من العمر، ضمن مشروع بحثي واسع يتتبع تطور العلاقات الاجتماعية والوجدانية لدى الأطفال الأمريكيين.
وأظهرت النتائج أن الأطفال الذين حظوا بـتجارب دافئة ومليئة بالدعم والرعاية من مقدمي الرعاية الأساسيين، ولا سيما الأمهات، كانوا الأكثر قدرة على بناء علاقات قائمة على الثقة والاطمئنان في حياتهم اللاحقة.
كما بينت الدراسة أن جودة صداقات الطفولة تلعب دوراً لا يقل أهمية عن دور العائلة، إذ ارتبطت الروابط الإيجابية المبكرة بين الأصدقاء بقدرة أكبر على إقامة علاقات عاطفية مستقرة في مرحلة البلوغ.
من الأسرة إلى العلاقات الرومانسية
تؤكد الدراسة أن أثر العلاقات المبكرة لا يتلاشى مع مرور الوقت، بل يترك بصمة عميقة على شكل العلاقات المستقبلية، فالأشخاص الذين نشأوا في بيئة داعمة ومليئة بالحب، يميلون إلى الثقة بالآخرين والتعبير عن مشاعرهم بارتياح، بينما يعاني من حُرموا من هذا الدفء في الطفولة من صعوبة في التواصل والخوف من الهجر أو الرفض في علاقاتهم اللاحقة.
يقول البروفيسور جيفري سيمبسون، أحد القائمين على الدراسة: "النتائج تذكّرنا بأهمية تقديم رعاية عاطفية حقيقية للأطفال والمراهقين، فذلك لا يصنع فقط طفولة سعيدة، بل يساهم في بناء بالغين قادرين على الحب والثقة والتوازن النفسي".
ويضيف سيمبسون أن ما فاجأ فريق البحث هو أن الصداقاتفي سن مبكرة كان لها تأثير واضح على تكوين أنماط التعلّق الآمن، وليس العلاقات الأسرية وحدها.
ويرى الباحثون أن الطريق لا يزال طويلاً لفهم التحولات في أنماط التعلّق عبر الزمن، أي كيف ينجح بعض من عاشوا طفولة مضطربة في بناء علاقات أكثر استقراراً لاحقاً، ولماذا يفقد آخرون شعور الأمان رغم نشأتهم في بيئة مستقرة.
لكن ما يبدو مؤكداً حتى الآن هو أن العلاقات الأولى في حياتنا ليست مجرد ذكريات طفولة، بل هي اللبنة التي تُبنى عليها قدرتنا على الحب والثقة والتواصل في بقية مراحل العمر.